الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
45 - رقم الاستشارة : 1818
03/05/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أنا شاب مريت بتجارب كتير في حياتي، منها الحلو ومنها الصعب. كنت بعيد عن ربنا فترة، بس مؤخرًا بدأت أرجع وأحاول ألتزم وأقرب من ربنا، وأصلّي وأقرأ قرآن، وأفكّر أكتر في قراراتي، عشان أمشي في طريق يرضي ربنا.
بس فيه سؤال دايمًا بييجي في بالي وبيحيّرني، يعني لو ربنا سبحانه وتعالى عارف كل حاجة عني، من قبل ما أتولد، وعارف أنا هعمل إيه وهاروح فين، طب إزاي أكون حر في اختياراتي؟
أنا لما باخد قرار، بحس إني بختار بإرادتي، بس برجع وأسأل نفسي: هو أنا فعلاً باختار؟ ولا أنا ماشي في سكّة مكتوبة لي من الأول؟
يعني باختصار: لو ربنا عارف كل اللي هيحصل، يبقى كده أنا مش مخيَّر؟ ولا علم ربنا ما يمنعش إن يكون عندي حرية في الإرادة؟
أنا مش بسأل عشان أعترض، بالعكس، أنا بس نفسي أفهم وأطمن، خصوصًا إني حاسس إني أخيرًا بدأت أمشي في طريق التوبة، وعايز أكون مسئول قدّام ربنا بصدق، بس مش عايز أفضل محتار أو أدوّخ نفسي بأفكار تربكني.
ياريت توضحولي الموضوع ده بطريقة تخليني أفهمه وأرتاح. جزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، حيَّاك الله يا أخي، وبارك الله فيك على هذه الرسالة الطيبة، وعلى ثقتك الغالية فينا. أسأل الله لك الثبات على طريق التوبة، والنور في القلب، والسكينة في النفس، وأن يجعل خطاك في مرضاته، وأن يُتم عليك نعمته بالتوفيق والقبول، وبعد...
العلم الإلهي المطلق لا يعني الجبر:
الله -عز وجل- يعلم كل شيء، وهذا جزء من كماله المطلق. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: 75]، وقال: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، وقال: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 59].
ولكن، يجب أن ننتبه لمعنى هذا العلم؛ فإن علم الله سابق، أي أنه يعلم ما سيفعله العبد باختياره، وليس لأنه علمه صار العبد مجبورًا عليه. وهذا الفرق جوهري.
وتأمل معي يا أخي -ولله المثل الأعلى- معلِّمًا يعرف من طلابه من هو المجتهد ومن هو المهمل، فيتوقع بناءً على معرفته الدقيقة بهم سلوكهم ونتائجهم، فهل هذا يعني أن الطالب منهم لم يكن حرًّا في قراراته؟ كلا؛ بل كان حُرًّا، ولكن المعلم يعرف طبائعهم وسلوكهم جيدًا.
فكيف بربنا -سبحانه- الذي وسِع علمه كل شيء؟!
إنه –جل وعلا- يعلم ما سنفعله؛ لأنه خالقنا، ويعلم نفوسنا وأهواءنا ونياتنا، ولكنه لا يُكرِه أحدًا على فعل.
نحن نُحاسب على ما نملكه من اختيار
نعم، نحن مُخَيَّرون في أفعالنا التي نُحاسب عليها. وربنا سبحانه بيَّن هذا بوضوح في القرآن:
﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]. ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3]. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ [يونس: 108].
هذه الآيات تُثبت أن الإنسان له حرية الاختيار، والله لا يُحاسب العبد على شيء فُرض عليه قهرًا، بل على ما اختاره بعقله وإرادته.
الفرق بين المشيئة الإلهية والعلم السابق
قد تقول: إذا كان الله قد كتب كل شيء، فهل أنا أنفِّذ قدرًا مكتوبًا لا مفر منه؟
هنا نفرِّق بين العلم، والمشيئة، والقدر:
فالعلم: الله يعلم ماذا ستختار.
والمشيئة: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولكنه شاء أن يترك لك حرية الاختيار، فلا يشاء لك الكفر أو الإيمان قهرًا.
والقدر: هو نظام الله في الخلق، يشمل الأسباب والنتائج، ولكن لا يجبرك على سلوك طريق معين، بل يُجري عليك القدر بما تختاره.
وقد حيَّر هذا السؤال عقول الناس منذ القدم، حتى صحابة رسول الله ﷺ، فقد جاء رجل إليه ﷺ، فقال: يا رسولَ الله، أرأيتَ ما نعمل فيه؟ أشيء قد فُرغ منه، أو شيء نبتدئه؟ قال: "بل شيء قد فُرغ منه". قال: ففيمَ العمل إذًا؟ قال: "اعملوا، فكلٌّ ميسّرٌ لما خُلق له" [رواه مسلم].
فالجواب النبوي واضح: لا تفكر فيما فُرغ منه، بل اعمل، فأنت لا تعلم ما هو المكتوب، ولكنك تشعر بإرادتك وتُحاسب على قراراتك.
نعيش الحاضر ولا نعلم الغيب
إن الإنسان يعيش الحاضر الواقع، ولا يعلم المستقبل، فيقرِّر ويختار، ولذلك، نُحاسب على ما نعيشه بإرادتنا، لا على ما كتبه الله بعلمه.
فالتوبة اختيار، والعمل الصالح اختيار. وأنت الآن –بفضل الله- بدأت طريق التوبة، وتشعر بندم على الماضي، وإقبال على الطاعة، فهل أجبرك أحد على هذا؟
هل قال لك أحد: لا بد أن تتوب رغمًا عنك؟
كلا، بل هو شعور خرج من قلبك، وقرار اتخذته بروحك، والله يحب هذا منك، وسيفتح لك أبواب الخير، إن أخلصت وواصلت.
وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُم بِإِيمَانِهِمْ﴾ [يونس: 9]، أي: أنت بدأت بالإيمان والعمل، والله يهديك بعده، وييسر لك الطريق.
لا تشغل نفسك بما لا تقدر عليه
بعض الأمور لا تدركها العقول تمامًا، مثل طبيعة العلاقة بين علم الله واختيار الإنسان.
والقاعدة الذهبية هنا هي: "ما كُلُّ ما لا تدركه العقول يُنفى عن الوجود".
لذلك قال الإمام مالك حين سُئل عن الاستواء: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
وكذلك هنا: نؤمن بأن الله يعلم كل شيء، وأن لنا حرية في الاختيار، وهذا يكفينا لنمضي بثقة، بدلًا من أن نُربك عقولنا بأمور الغيب.
وختامًا -أخي الكريم- اطمئن، فإنك مُخيَّر، ومسؤول، والله يرى سعيك، ويعلم صدقك، وهو لا يُضيع عمل العاملين. فكل خطوة تخطوها إليه يخطو إليك بها خطوات، وكل لحظة تتفكر فيها لتكون أقرب إليه هي عنده عظيمة، وإن لم تجد جواب كل شيء الآن، فالله وعد: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17].
فواصل طريق التوبة، وابكِ على الماضي، واعمل للحاضر، وثِق بأن الله لا يظلم أحدًا، بل يفتح لمن طرق بابه، ويُكرم من أخلص له. وأنت قد بدأت والحمد لله، فاثبت، واصبر، وادعُ الله دائمًا أن يثبِّتك ويزيدك فهمًا ونورًا.
أسأل الله أن يشرح صدرك، وينير دربك، ويجعلك من أهل التوبة واليقين، وتابعنا بأخبارك.