الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
59 - رقم الاستشارة : 1666
19/04/2025
أنا شاب متجوز، وعندي بنت صغيرة ربنا يباركلي فيها، وبحاول على قد ما أقدر أكون زوج وأب كويس، وكمان عبد قريب من ربنا. بس بصراحة أكتر معركة بحس إني فيها كل يوم، هي المعركة مع نفسي. كل ما أحاول أظبطها، وأني ألتزم، وأبعد عن اللي يغضب ربنا، ألاقيها بتفلت مني تاني، وتجرّني لحاجات كنت خلاص قررت أبطلها.
أنا مش بايع ديني، وفعلاً في أوقات بحس إني بتغيّر وبقرّب، بس فجأة ألاقي نفسي رجعت لنقطة الصفر، ويمكن أبعد كمان! وأقعد ألوم نفسي، وأتضايق، وأقول: ليه؟! أنا كنت كويس، ليه رجعت؟
وأكتر حاجة بتوجعني إني خايف أكون كده دايمًا، أبدأ وأقع، أتحمس وبعدين أتكاسل، أقاوم شوية وبعدين أستسلم. وفي عز ما بحاول أكون أب يعلّم بنته الطريق الصح، ألاقي نفسي لسه مش قادر أضبط طريقي أنا.
فأنا جاي أسأل: أعمل إيه مع نفسي؟ إزاي أكبح جماحها؟ إزاي أخلّيها تسمع الكلام بدل ما تفضل تسوقني يمين وشمال؟
هل في خطوات عملية؟ حاجات أقدر أطبّقها فعليًا تساعدني أثبّت نفسي؟ وهل في علامات أعرف بيها إن حتى مع التعثر أنا ماشي صح؟
أنا مش طالب الكمال، بس نفسي أحس إني بتقدّم مش كل شوية أرجع ورا. جزاكم الله خيرًا، وربنا يجعل اللي بتكتبوه سبب في هداية ناس كتير.
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، ونشكر لك تواصلك معنا، ونحمد الله أن يسَّر لك هذا البوح الصادق الذي يدل على قلب حيٍّ، ونفس لوَّامة تسعى للإصلاح، وروحٍ تتوق إلى القُرب من الله عزّ وجل.
أسأل الله أن يُثبّتك، ويشرح صدرك، ويطهِّر قلبك، ويجعل لك من كل ضيق مخرجًا، ومن كل همٍّ فرجًا، وأن يُبارك لك في زوجك وابنتك، ويجعلك لهما قدوةً صالحة، ومصدرَ نورٍ وطمأنينة.
هكذا تُولد القلوب القريبة من الله
أخي المبارك، إن الشعور الذي عبَّرت عنه هو بحد ذاته نعمة من نعم الله عليك. نعم، الألم الذي تحسُّه، واللوم الذي تُعاتب به نفسك، والتقلب بين الخوف والرجاء، ليست سوى علامات واضحة على أنك على الطريق، حتى وإن بدت خطواتك متعثرة. لأن من ينام في حضن الغفلة لا يشعر بهذا القلق، ولا يطرح مثل هذه الأسئلة، ولا يسعى للإصلاح.
وقد قال النبي ﷺ: «كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون» [رواه الترمذي]. فليست النجاة ألَّا نقع؛ بل أن نقوم بعد السقوط، ونعاود التوبة، ونواصل السعي.
المعركة مع النفس سُنَّة ماضية
ما ذكرته من معاناة مع النفس هو أوضح ما يكون في قوله تعالى: ﴿إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: 53]. فهذه النفس بطبيعتها تميل إلى الراحة، وتضعف أمام الشهوات، وتسعى للفرار من كل تكليف. ولهذا كانت مجاهدتها عبادة عظيمة.
ولعلَّ من رحمة الله بك أن جعلك تشعر بهذا الصراع؛ لأن هذا أول أبواب إصلاحها، وهو أيضًا علامة على أنَّك لم تترك الحبل لها على الغارب.
أنت على الطريق
تسأل: "ليه أرجع تاني بعد ما أكون اتغيرت؟"، وأقول لك: في طريقك إلى الله أنت بين استقامة وانحراف، بين مَدٍّ وجزر، مدفوع بالعزم، والطريق محاط بالابتلاءات، مليء بالعثرات. وما دمت كلما وقعت رجعت، فأنت في ساحة المجاهدة، في زمرة الراجين.
قال الله تعالى: ﴿والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]، فالجهاد في الله، هو مفتاح الهداية. وقال ﷺ: «والمجاهدُ من جاهدَ نفسَهُ في طاعةِ اللَّهِ» [رواه أحمد].
وتأمل في حديث النبي ﷺ: «إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا» [رواه البخاري]، فشعورك بالخوف والندم هو في حد ذاته علامة إيمان.
كيف تُكبح النفس وتُهذَّب؟
1- الصحبة الصالحة
ابحث عن رفقة تُذكِّرك بالله، تُعينك على الطاعة، وتشدُّك إذا ضعفت. فالقلب ضعيف وحده، قوي بالجماعة. يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]. وقال ﷺ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَليلِه؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلْ» [رواه أبو داود].
2- أوراد يومية لا تتركها أبدًا
ولو كانت قليلة: أذكار الصباح والمساء والأحوال، ركعتان خفيفتان في جوف الليل، صفحة من القرآن، تسبيحات قبل النوم... المهم أن يكون لك باب موصول إلى الله لا يُغلق. قال ﷺ: «أَحَبُّ الأعْمالِ إلى اللهِ تَعالَى أدْوَمُها، وإنْ قَلَّ» [رواه مسلم].
3- توبة لا تنقطع
لا تيأس من تكرار الذنب ثم التوبة منه. فكلما وقعت عُد. قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، واعلم أنَّ الله –جل وعلا- لا يملُّ حتى تملَّ أنت.
4- البُعد عن مُهيِّجات المعاصي
اعمل على سَدِّ منافذ الضعف على قدر الاستطاعة، سواء كان هذا المنفذ صحبة ما، أم مكان ما، أم الهاتف، أم الخلوة... إلخ، ضيِّق مساحة ووقت احتكاكك بها، إن لم تستطع هجرها بالكامل.
5- رؤية العائد
اربط كل طاعة بعائدها على قلبك وأسرتك. قل لنفسك: كل خطوة إلى الله نورٌ في قلبي، وبركة في بنتي، وستر في أهلي." واجعل لنفسك نيّات كثيرة في كل عبادة.
هل هناك علامات على أنك ما زلت على الطريق؟
نعم، كثيرة، وأنت ذكرتَ بعضها بنفسك دون أن تشعر، ومنها:
- الشعور بالندم والحسرة بعد المعصية.
- استمرار المحاولة بعد كل سقوط.
- الرغبة في الثبات والدعاء به.
- الخوف من سوء الخاتمة.
- الحرص على تربية ابنتك على طاعة الله.
هذه شواهد صدق، وبوادر هداية، ومواقيت قرب.
أبٌ صالح بإذن الله
أخي، لا تقلق كثيرًا من فكرة أنك لست قدوة كاملة لابنتك، فإن القدوة الصادقة ليست في الكمال، بل في الصدق، والاعتراف بالخطأ، والاستمرار في السعي.
طفلتك، بإذن الله، ستكبر لترى فيك صورة الأب الذي لم يستسلم، الذي أخطأ ثم اعتذر، الذي ضعف ثم نهض، الذي علَّمها أن القرب من الله رحلة، لا قفزة.
وختامًا –أيها الحبيب- لا تعجز، وتذكَّر قوله تعالى: ﴿... ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ومَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ...﴾ [الطلاق: 2 و3].
فسِر في طريق الله، متعاملًا مع نفسك كما يتعامل الزارع مع الأرض: يزرع، ويسقي، ويصبر، ثم يفرح بالثمر بعد طول انتظار.
فإن أثقلتك نفسك، فاذكر أنك تحمل أمانة، أمانة البنت الصغيرة، وأمانة القلب الذي ناداك، وأمانة الطريق الذي لا يُقطع إلا بالعزم.
جزاك الله خيرًا على صدقك، وفتح لك أبواب رحمته، وسقاك من نهر اليقين، وبلَّغك منزلة الثابتين. ولا تتردد يومًا في العودة إلينا متى احتجت قلبًا يستمع، أو فكرًا يُعين.