22 فبراير 2025

|

23 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 64
  • رقم الاستشارة : 1081
20/02/2025

شيخنا الفاضل، كيف يمكن لي كمسلم يحاول إرضاء الله أن أجعل محاسبة النفس عادة يومية ثابتة تكون سببًا في تقوية إيماني ورفع درجاتي؟ وكيف أطبق ذلك عمليًّا في حياتي دون أن أقع في التسويف أو التساهل، أو على الجانب الآخر في القسوة على نفسي؟ وهل هناك منهجية معينة أو خطوات محددة يمكن اتباعها لجعل هذه المحاسبة مثمرة ومؤثرة، بحيث لا تكون مجرد محاسبة شكلية، بل تؤدي إلى تصحيح المسار والارتقاء بالروح والقلب؟ كما نود من فضيلتكم توضيح أثر هذه المحاسبة في حياة المسلم اليومية، سواء في عباداته، أو أخلاقه، أو معاملاته مع الناس، بحيث يصبح أكثر قربًا من الله وأشد حرصًا على مرضاته.

الإجابة 20/02/2025

الحمد لله الذي جعل محاسبة النفس بابًا للإصلاح، ومدخلًا للرقي في مدارج الإيمان، والصلاة والسلام على من كان أشد الناس محاسبة لنفسه، فكان في كل يوم يستغفر الله أكثر من سبعين مرة، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أخي الفاضل، مرحبًا بك، وأشكرك على سؤالك القيم، وبعد...

 

فإن النفس البشرية بطبيعتها تميل إلى الراحة والهوى، ولو تركها الإنسان دون محاسبة، لوجد نفسه تائهًا بين غفلة وتقصير، وربما استحوذ عليه الشيطان فأوهمه أنه بخير، حتى يجد نفسه يوم القيامة من الخاسرين. لذلك، جعل الله لنا باب المحاسبة سبيلًا للنجاة، فقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

 

فهذه الآية الكريمة دعوة صريحة لأن يقف المؤمن مع نفسه كل يوم، فينظر ماذا قدَّم ليوم الحساب، فيكون دائم التقييم والتصحيح، حتى يلقى الله بقلب سليم.

 

أولًا- كيف نجعل محاسبة النفس عادة يومية ثابتة؟

 

إن تحويل محاسبة النفس إلى عادة يومية يحتاج إلى إيمان قوي ومنهج واضح، حتى لا تضيع النفس بين التسويف والقسوة المفرطة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال الخطوات التالية:

 

1- استحضار النية والهدف:

 

المحاسبة ليست مجرد عادة، بل هي عبادة قلبية عظيمة، تقرب العبد من ربه، وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، وزِنوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا، فإنَّه أخفُّ عليكم في الحسابِ غدًا أن تُحاسِبوا أنفسَكم اليومَ».

 

فلتكن نيتك في المحاسبة إصلاح النفس وبلوغ التقوى، وليس مجرد تأنيب الذات.

 

2- تحديد وقت ثابت يوميًّا للمحاسبة:

 

اجعل لنفسك موعدًا ثابتًا يوميًّا للمحاسبة، كأن يكون قبل النوم، أو بعد صلاة الفجر، فكما أن لكل شيء مادي في حياتك وقته، من طعام، وعمل، ونوم، فالقلب يحتاج أيضًا إلى وقت يومي لمراجعة أعماله.

 

3- اتباع منهجية واضحة في المحاسبة:

 

لا تجعل المحاسبة عشوائية، بل اسأل نفسك أسئلة محددة:

 

* هل صليت الفرائض بإخلاص وخشوع؟

 

* هل أديت حقوق الناس ولم أظلم أحدًا؟

 

* هل كنت صادقًا في أقوالي وأفعالي؟

 

* هل جاهدت نفسي عن المعاصي والشهوات؟

 

4- تسجيل المحاسبة وكتابتها:

 

دوِّن ذنوبك وأخطاءك، ثم استعرضها في وقت المحاسبة، وجدد التوبة كل يوم، فهذا يساعد على رؤية التقدم وتدارك الأخطاء قبل أن تتراكم.

 

5- الموازنة بين الرحمة والصرامة:

 

لا تكن قاسيًا على نفسك حتى لا تصاب بالإحباط، ولا متساهلًا فتنزلق إلى الغفلة. المؤمن الحقيقي هو الذي يجمع بين الخوف والرجاء، فلا يقنط من رحمة الله، وفي الوقت نفسه لا يأمن مكره.

 

ثانيًا- كيف نطبق المحاسبة دون تسويف أو قسوة؟

 

لتحقيق التوازن في المحاسبة، اتبع هذه القواعد:

 

1- ابدأ بالأهم فالمهم:

 

لا تحاسب نفسك على أمور صغيرة قبل أن تعالج القضايا الكبرى، فابدأ بالفرائض، ثم الأخلاق والمعاملات.

 

2- اجعل التغيير تدريجيًّا:

 

لا تثقل على نفسك بتغييرات جذرية في يوم وليلة، بل ابدأ بإصلاح خطأ واحد يوميًّا، ثم زد على ذلك.

 

3- اجعل للمحاسبة أثرًا عمليًّا:

 

* إذا وجدت أنك تكاسلت عن الصلاة، فزد في نوافل اليوم التالي.

 

* إذا أخطأت في حق أحد، فبادر بالاعتذار وإصلاح الأمر.

 

*  إذا قصرت في ذكر الله، فاجعل لنفسك وردًا إضافيًّا.

 

4- لا تكتفِ بالندم وانتقل إلى المعالجة:

 

لا يكفي أن تقول: «لقد أخطأت»، بل اسأل نفسك: ما الحل؟ وكيف أصلح نفسي؟

 

5- تعزيز الجانب الروحي والإيماني:

 

أكثر من الاستغفار، وذكر الله، وقراءة القرآن، فإن ذلك يلين القلب، قال النبي ﷺ: «إنَّ العبدَ إذا أخطأَ خطيئةً نُكِتت في قلبِهِ نُكْتةٌ سوداءُ، فإذا هوَ نزعَ واستَغفرَ وتابَ صُقِلَ قلبُهُ [رواه الترمذي].

 

ثالثًا- أثر المحاسبة في حياة المسلم اليومية:

 

إذا التزم المسلم بمحاسبة نفسه بانتظام، فإنه سيجد أثرًا عظيمًا في كل جوانب حياته:

 

1- في العبادات:

 

* يصبح أكثر خشوعًا في الصلاة.

 

* يزداد إقباله على القرآن.

 

* يحافظ على الأذكار والطاعات.

 

2- في الأخلاق والمعاملات:

 

* يصبح أكثر صدقًا وأمانة.

 

* يتخلص من الكبر والحسد والبغضاء.

 

* يكون أكثر لطفًا ورحمة في التعامل مع الناس.

 

3- في القرب من الله:

 

* يشعر بحلاوة الإيمان.

 

* يزداد يقينه وثقته بالله.

 

* يصبح قلبه أكثر طمأنينة.

 

وختامًا -أخي الكريم- إن محاسبة النفس ليست مجرد عادة، بل هي جسرٌ إلى الجنة، وطريقٌ إلى رضا الله، فمن اعتادها في الدنيا، خفَّ حسابه يوم القيامة. قال الحسن البصري رحمه الله: «المؤمن قوّام على نفسه، يحاسبها لله، وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا».

 

فاجعل محاسبة النفس مرآةً تنظر بها إلى قلبك كل يوم، وأداةً لإصلاح مسارك، وأيقن بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.

 

أسأل الله أن يجعلنا وإياك من الذين يحاسبون أنفسهم بصدق، فيتوبون ويعودون إليه، حتى نلقاه بقلوب طاهرة، ووجوه مستبشرة. اللهم آمين.