الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
36 - رقم الاستشارة : 997
16/02/2025
أعاني من مشكلة في الاستمرارية والمواظبة على العادات الإيجابية، سواء في ممارسة الرياضة، الادخار، القراءة، أو حتى تنمية ذائقتي الفنية.
أبدأ بحماس شديد، لكن سرعان ما تخبو حماستي بعد أيام أو أسابيع، وأجد نفسي أبحث عن أعذار مثل الانشغال، رغم أن الأمر في جوهره مرتبط بفقدان الدافع أو الملل.
كيف يمكنني بناء نظام يساعدني على التمسك بهذه العادات لفترات طويلة دون أن أفقد الشغف سريعًا؟
وهل هناك استراتيجيات عملية يمكن أن تساعدني في تحويل هذه المحاولات المتقطعة إلى أسلوب حياة مستدام؟
ولدي العزيز، مرحبًا بك، ونشكرك على ثقتك بنا، ونسأل الله -سبحانه- أن يوفقنا لمساعدتك، وبعد...
فإن سؤالك يعكس وعيًا ونضجًا ورغبة صادقة في تحسين حياتك، وهذه بداية عظيمة بحد ذاتها. فإدراك المشكلة هو نصف الحل، والسعي نحو التغيير دليل على حياة قلبك وحرصك على النمو والتقدم.
كلنا يا بُنَي نمر بمثل هذه الدورات من الحماس والخفوت، وهذا جزء من الطبيعة البشرية، ولكن الله -سبحانه وتعالى- لم يتركنا بلا هدى، بل أرشدنا إلى سبل الثبات والاستمرارية، وعلّمنا من خلال كتابه وسنة نبيه ﷺ كيف نزرع العادات الصالحة في حياتنا وكيف نحافظ عليها.
أولًا- لماذا نفقد الحماس سريعًا؟
السبب الأساسي وراء ضعف الاستمرارية في العادات الإيجابية ليس مجرد الانشغال، بل يعود -غالبًا- إلى فقدان الدافع الداخلي، أو عدم وضوح الأهداف، أو الإرهاق الناتج عن البدء بقوة مبالغ فيها دون تخطيط مستدام. النبي ﷺ قال: «أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ أدْومُها وإن قَلَّ» [رواه البخاري].
وهذا الحديث فيه قاعدة ذهبية، هي: الاستمرارية هي الأهم، حتى لو كانت الخطوات صغيرة. فالمهم ليس البدء بحماس ثم الانطفاء؛ بل بناء عادة تصبح جزءًا من أسلوب حياتك، كما أن العبادة نفسها قائمة على التدرُّج والاستمرار، لا على دفعات قصيرة من الحماس ثم التوقف.
ثانيًا- كيف نبني نظامًا للالتزام بالعادات الإيجابية؟
1- تحديد الدافع الحقيقي:
قبل أن تبدأ أي عادة، اسأل نفسك: لماذا أريد أن أمارس هذه العادة؟ هل هو مجرد اندفاع مؤقت؟ أم أن هناك قيمة عميقة تربطني بها؟ مثلًا:
* هل أريد ممارسة الرياضة لأجل الصحة أم لأجل المظهر؟
* هل أريد القراءة لمجرد التسلية أم لتنمية فكري وروحي؟
إذا كان دافعك سطحيًّا أو مؤقتًا، فمن الطبيعي أن يخبو سريعًا. لكن عندما ترتبط العادة بهدف سامٍ، تصبح جزءًا من رسالتك في الحياة.
وتأمل معي قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56]، فكل فعل تقوم به -حتى الرياضة والقراءة- يمكن أن يكون عبادة إذا نويت به التقرب إلى الله، وهذا يرفع قيمته في نفسك، ويجعله جزءًا من مهمتك في الحياة، انطلاقًا من المفهوم الشامل للعبادة، وهو أنها كل ما يرضاه الله -عز وجل- من الأفعال الظاهرة والباطنة، شرط استحضار نية العبادة.
2- التدرج وعدم المبالغة خصوصًا في البداية:
كثيرون منا يبدؤون ما يريدون جعله عادة بحماس شديد، فتجد الواحد منا يضع لنفسه أهدافًا كبيرة، مثل: «سأقرأ كتابًا كل أسبوع»، «سأمارس الرياضة ساعتين يوميًّا»... إلخ؛ لكن هذا قد يُعدُّ غير واقعي، ولا يتناسب مع ظروفه بصورة عامة، ما يؤدي به إلى الإرهاق ثم التوقف. إن النبي ﷺ كان يعلم الصحابة التدرج حتى في العبادات، فكيف بعادات الحياة؟
لذا أنصحك بأن تبدأ بخطوات صغيرة جدًّا، مثل:
* 5 دقائق قراءة يوميًّا.
* 10 دقائق رياضة 3 مرات أسبوعيًّا.
* توفير مبلغ بسيط شهريًّا.
إن التدريج يجعل العادة سهلة ومستدامة، ثم يمكنك زيادة مقدارها تدريجيًّا.
3- ربط العادة الجديدة بعادة قديمة:
أفضل طريقة لخلق عادة جديدة هي ربطها بعادة ثابتة لديك بالفعل، مثل:
* قراءة 5 دقائق بعد صلاة الفجر.
* المشي أثناء الاستماع إلى بودكاست مفيد.
* فصل مبلغ الادخار بعد استلام الراتب مباشرة.
إن هذا يسمَّى «تكديس العادات» (Habit Stacking)، وهو أسلوب مُجرَّب بنجاح في علم النفس السلوكي.
4- أحِط نفسك بأشخاص داعمين:
الإنسان يتأثر بمن حوله. فإذا كنت محاطًا بأشخاص لا يهتمون بالعادات الإيجابية، فسيصعب عليك الاستمرار. ابحث عن أصدقاء يشاركونك الأهداف نفسها، أو انضم إلى مجتمعات تشجعك وتدعمك، سواء كانت واقعية مباشرة، أو افتراضية غير مباشرة عبر الإنترنت (جروبات).
5- اصنع حولك بيئة محفزة:
على سبيل المثال:
* ضع الكتاب بجانب سريرك لتقرأ قبل النوم.
* جهِّز ملابس الرياضة مسبقًا لتسهل عليك الخروج.
* استخدم تطبيقات التذكير والمتابعة.
6- مكافأة النفس والاحتفاء بالإنجازات:
مهما كانت هذه الإنجارزات صغيرة، فالمكافأة النفسية عامل قوي في بناء العادات، ولكن اجعلها مناسبة ولا تفسد الهدف. على سبيل المثال:
* إذا التزمت بالرياضة أسبوعًا، فكافئ نفسك بيوم راحة أو بوجبة صحية لذيذة.
* إذا قرأت كتابًا، فشارك ملخصه مع صديقك أو اكتبه لنفسك.
ثالثًا- كيف نستعيد الشغف إذا بدأ يخبو؟
من الطبيعي أن يمر الإنسان بفترات الفتور وفقدان الشغف، ولكن الأهم ألا يستسلم. قال النبي ﷺ: «إن لكل عمل شِرَّة، ولكل شِرَّة فَترة، فمن كانت فَترته إلى سنتي فقد اهتدى» [رواه أحمد].
وإليك بعض الحلول عندما تصاب بهذه الحالة.
1- غيّر طريقتك: إذا مللت من القراءة الورقية، فجرب الكتب الصوتية، أو بدّل نوعية الكتب التي تقرؤها.
2- اجعل العادة ممتعة: مارس الرياضة مع صديق، أو استمع لشيء تحبه أثناء التمارين.
3- ارجع إلى نيتك الأصلية: لماذا بدأت؟ ذكِّر نفسك بدافعك العميق.
4- اقبل الفتور دون جلد الذات: فلا بأس أن تمر بفترة ضعف، لكن لا تجعلها تُوقفك تمامًا. قم مرة أخرى ولو بجهد بسيط.
وختامًا -ولدي العزيز- فإن بناء العادات ليس سباقًا سريعًا؛ بل هو ماراثون طويل، الاستمرارية فيه أهم من الكمال المؤقت، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع. استعِن بالله دائمًا، واجعل نيتك خالصة له، وخذ الأمور بتدرج وهدوء.
تذكر قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]. فكل خطوة تأخذها في طريق التحسن هي جهادٌ في سبيل الله، وهو -سبحانه- سيعينك ويثبتك إذا صدقتَ في السعي. فاستعن بالله ولا تعجز، واستمتع بالرحلة، ولا تستعجل النتائج.
وفقك الله لكل خير، وبارك في عمرك وسعيك، وتابعنا بأخبارك.