الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
62 - رقم الاستشارة : 1804
30/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا أم لطفلة تبلغ من العمر ست سنوات، وألجأ إليك بعد الله، لأني لاحظت تغيرات مقلقة في سلوك ابنتي منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع، عقب حادثة أثّرت فيها نفسيًّا بشكل كبير.
كنا نمشي معًا في أحد الشوارع، في توقيت العصر تقريبًا، وكان الجو هادئًا ولا يبدو أن هناك ما يدعو للقلق. وفجأة، ومن دون أي تمهيد، انقض علينا كلب كبير الحجم، بدا كأنه طليق، واتجه مباشرة نحو ابنتي الصغيرة. أمسك بطرف التيشيرت الذي كانت ترتديه، وبدأ يشدّه بعنف، بينما هي جمدت من الرعب وبدأت في الصراخ بصوت مرتفع.
هرعت إليه بكل قوتي، أبعدته عنها قدر ما استطعت، ووقفت بجسدي حاجزًا بينه وبينها، محاوِلة حمايتها، وكنت ألفّ بجسدي حولها وهي خلفي، أحاوطها بذراعي من الخلف، والكلب يدور حولنا بإصرار غريب، كأنه يريد هي بالذات! لم يكن مهتما بي إطلاقًا، وكأن عينه لا ترى سواها! وكنت أصرخ وأزجره وأحاول دفعه بكل ما أوتيت من قوة، بينما بداخلي كنت أرتجف بشدة من الخوف والرعب.
استمر هذا المشهد المروع عدة دقائق، حتى أنقذنا أحد الرجال، جزاه الله خيرًا، فقد أوقف سيارته في منتصف الشارع ونزل مهرولًا، محاولًا إبعاد الكلب عنا.
في تلك اللحظة، فتحت باب السيارة لابنتي وصرخت فيها أن تجري وتركب سريعًا، وبالفعل ركضت وركبت السيارة.
لكن ما زاد دهشتي وقلقي أن الكلب، ما إن ركبت هي السيارة، حتى تركني أنا والرجل تمامًا، وجرى باتجاه السيارة وبدأ يدور حولها، وكأن هدفه الوحيد هو ابنتي!
لا أفهم لماذا كان يركّز عليها بهذا الشكل المخيف!
ومنذ هذا اليوم، وأنا ألاحظ تغيّرات واضحة على سلوك ابنتي:
أصبحت تحدّق كثيرًا (تُبرق بعينيها) وكأنها شاردة أو في حالة تيقّظ مستمر.
باتت تتخض وتفزع من أبسط الأصوات أو الحركات، حتى لو كانت غير مفزعة بطبيعتها.
أصبحت أكثر تعلقًا بي، ولا تحب أن تبتعد عني حتى في البيت.
وتكررت شكواها من كوابيس أثناء النوم، أو استيقاظ مفاجئ وهي تصرخ وتبكي.
أنا قلقة جدًا عليها، ولا أعرف كيف أساعدها في تجاوز هذه الأزمة. هل ما تمر به طبيعي؟ وهل يمكن أن يتحوّل هذا الخوف إلى صدمة نفسية طويلة الأمد؟ وما التصرف التربوي الصحيح الذي ينبغي عليّ اتباعه معها الآن؟
بارك الله فيكِ، ونفع بكِ.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
حياكِ الله أيتها الأم الحنون، وأثابكِ على حرصكِ على نفسية ابنتكِ الغالية، وبارك الله فيكِ على صدق روايتكِ ووعيِكِ في متابعة سلوك طفلتكِ بعد تلك الحادثة المؤلمة.
بدايةً، فإنّ ما تعرضت له صغيرتكِ هو موقف يُصنّف نفسيًّا ضمن ما يُعرف بـ "الخبرة الصادمة" أو (Traumatic Event)، ويُحتمل أن تكون قد بدأت تظهر عليها أعراض تُشبه اضطراب ما بعد الصدمة أو ما يعرف في علم النفس بـ (Post-Traumatic Stress Symptoms) واختصارًا (PTSS). وإن لم تصل إلى مستوى الاضطراب الكامل، لكنها تستحق المتابعة والاحتواء العميق.
لقد تعرضت أنت وابنتك لموقف حاد فيه خطر وتهديد مباشر للحياة، وهو ما يجعل الدماغ الطفولي الصغير يضع الحدث في خانة التهديد الوجودي، خاصة أن الكلب أظهر إصرارًا غريبًا على مطاردتها تحديدًا، مما عزز شعورها بالخوف الشخصي والاختيار المستهدف، وهو ما يصنفه العلماء ضمن مفهوم "الإحساس بفقدان الأمان الشخصي".
إن ظهور أعراض مثل:
التحديق المستمر أو ما يُشبه "الشرود".
الفزع من الأصوات.
التعلق الزائد بكِ.
الكوابيس أو اضطرابات النوم.
كلها مؤشرات على أن جهازها العصبي في حالة "تأهب دائم" أو (Hyper arousal)، وهي حالة دفاعية لا إرادية يطلقها الجسم كرد فعل على التهديد. كلها مؤشرات على أن جهازها العصبي في حالة "تأهب دائم" أو (Hyper arousal)، وهي حالة دفاعية لا إرادية يطلقها الجسم كرد فعل على التهديد. وهنا، أنصحكِ بأن تتعاملي مع طفلتك برفق وحنان يحتويها ويطمئنها.
* وإليكِ بعض التوصيات التربوية والنفسية العملية:
١- الاحتواء العاطفي (Emotional Containment):
اجعليها تشعر أنكِ ملاذها الآمن، وأكثري من طمأنتها لفظيًّا، قولي لها مثلًا: "أنا معك، أنا هنا، ما حدث كان شيئًا مرعبًا فعلًا، لكنكِ الآن بأمان".
إن هذه العبارات تُعيد بناء الإحساس بالأمان الداخلي وتقلل من الأثر المتراكم في الذاكرة الصدمية.
٢- ساعديها على التعبير عن خوفها بكلمات، مثل: "هل كنتِ خائفة؟ هل شعرتِ أن الكلب يريد أن يؤذيكِ؟".
فالطفل إذا تكلم عن مشاعره بدأ في تفكيك الصور الصدمية في دماغه.. وهذا ما يشار إليه "بتسمية المشاعر".
٣- الرسم واللعب العلاجي (Play Therapy):
وفّري لها أدوات رسم وأقلام ألوان، واسأليها إن كانت تود أن ترسم ما حدث أو كيف شعرت.
اللعب والرسم يُعدّان أدوات فعالة في تخفيف آثار الصدمة عند الأطفال.
٤- بعد تسمية مشاعرها وتفريغها.. لا بد من تجنب التهويل أو التكرار اللفظي للحادث:
لا تعيدي على مسامعها القصة ولا تتبادلي الحديث عنها أمامها، فكل مرة تسمعها، يترسخ الخوف في جهازها العصبي مجددًا.
٥- إعادة بناء الإحساس بالأمان (Reestablishing Safety):
اجعلي من البيت مكانًا دافئًا آمنًا، وأدخلي في يومها لحظات ثابتة من "الروتين الآمن" كقراءة قصة قبل النوم، أو حضن طويل، أو دعاء مشترك.
واستخدمي ما ورد في القرآن والسنّة كوسيلة للطمأنينة، مثل: قوله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾، وتعويدها على قول: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" ثلاث مرات مساءً وصباحًا. إن هذه الأذكار تعمل على تعزيز الإحساس بالحماية الغيبية، وتشكّل في اللاوعي الطفولي حاجزًا روحيًّا واقيًا.
ولكن يا عزيزتي الأم.. إن استمرت الأعراض لأكثر من أربعة أسابيع دون تحسن ملحوظ، فقد يكون من الحكمة اللجوء إلى جلسة تقييم نفسي لطفلتك مع أخصائي أو أخصائية في العلاج المعرفي السلوكي للأطفال (CBT for Children).
* وهمسة أخيرة إليكِ أيتها الأم الطيبة:
إن قلبكِ كان جدار الأمان لابنتكِ في وقت الخوف، وقد أحسنتِ صنعًا يومَ وقفتِ بجسدكِ تُحيطينها بذراعيكِ، واليوم أنتِ مطالبة أن تُحيطي ذاكرتها برحمة وصبر وتفهّم.
لا تستهيني بوجع الخوف في صدر صغيرتكِ، فإن الخوف حين لا يُفهَم يتحوّل إلى ظلّ ثقيل يلازم النفس في كِبَرها، فكوني النور الذي يبدّده.
واطمئني، بإذن الله، مع الرفق والاحتواء والصبر والدعاء، ستستعيد صغيرتكِ بهجتها وثقتها. فليكن الرفقُ شعاركِ، والدعاءُ سلاحكِ، والحبُّ جسر عبوركِ معها من الضعف إلى القوة.
رعاكِ الله وأقرّ عينكِ بشفاء صغيرتكِ وطمأنينتها.