Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. أميمة السيد
  • القسم : تربوية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 110
  • رقم الاستشارة : 1637
15/04/2025

بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، دكتورة أتمنى أن تكوني بخير وفي صحة جيدة. أود أن أستشيرك في أمر يثير قلقي ويشغل تفكيري في هذه الفترة، وأحتاج إلى نصيحتك الحكيمة في هذا الصدد.

لقد بدأت أشعر بضغط اجتماعي هائل يتزايد يوماً بعد يوم حول معايير مثالية تفرض على المرأة أن تكون متفوقة في جميع مجالات حياتها، وأن تظهر بصورة لا تشوبها شائبة.

أصبحنا نسمع دائمًا من مختلف الجروبات والمجموعات التربوية أن المرأة يجب أن تكون قوية، وأنها يجب أن تتحكم بكل شيء في حياتها وتقرر كل شيء بنفسها. نسمع عن تربية الأطفال بشكل مثالي، وكيف يجب أن يكون البيت دائمًا مرتبًا ونظيفًا، وكأن الحياة هي فقط في التفاصيل الصغيرة التي تظهر على السطح. في نفس الوقت، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تعرض نماذج مثالية لحياة المرأة من خلال "البلوجرز" الذين يشاركون روتين حياتهم اليومي، ما جعلني أشعر بأن حياتي الشخصية يجب أن تكون تحت المجهر، بحيث تكون صورتنا مثالية تمامًا كما في الصور المعدلة باستخدام الفلاتر.

وهذه الممارسات خلقت شعورًا بالغربة في حياتي. فكيف يمكن لأشخاص يعرضون لحظات حياتهم، التي قد تكون محض لحظات معدلة بعناية، أن يضعوا معايير حياتنا الأسرية بشكل عام؟ وهل أجبَر على أن أعيش وفق هذه المعايير التي تروج لها وسائل الإعلام ومجموعات السوشيال ميديا؟ أضف إلى ذلك، أصبحنا نسمع في مجال التربية أنه يجب علينا أن نكون دائمًا هادئين، وألا نرتكب أي أخطاء تربوية، وإذا فعلنا، نكون بحاجة لدورات تربوية جديدة.

بدأ هذا يثقل عليّ، وجعلني أشعر بالإرهاق الدائم، لأنني كلما حاولت أن أواكب هذه المعايير المثالية، شعرت بأنني أضيع نفسي، وأصبح التوازن بين دوري كأم وزوجة أمرًا شاقًا. ثم أتذكر جداتنا وأمهاتنا، كيف كنّ رائعات في تربيتنا دون الحاجة إلى هذه المثالية المفرطة التي نسمع عنها اليوم. كنّ يربين بحب وببساطة، تعيشن حياة هادئة وغير معقدة، وكان اهتمامهن بكل تفصيل صغير في حياتنا ينبع من قلوبهن، لا من معايير تُفرض على حياتهن. كنّ يزرعن فينا قيمًا وأخلاقيات تظل خالدة، حتى وإن كانت الحياة بسيطة. الآن، وفي ظل هذه المتغيرات المتسارعة، أجد نفسي حائرة بين ضرورة مواكبة التطور في التربية والحرص على تربية أبنائنا بما يتناسب مع روح العصر، وبين الحفاظ على التقاليد والقيم التي تربينا عليها من أمهاتنا وجداتنا، تلك القيم التي تربينا على أساسها وشكلت شخصياتنا.

كيف نواكب هذا التطور في التربية ونحافظ في الوقت نفسه على تقاليدنا العريقة التي علمتنا أن الحياة ليست في المثالية التي تروج لها وسائل الإعلام، بل في البساطة والصدق في التعامل مع الحياة؟ دكتورة، أتمنى أن أسمع منكِ رأيًا صادقًا وتوجيهًا رشيدًا حول هذا الموضوع. كيف يمكنني أن أعيش حياتي بشكل صحي، دون أن أشعر بالضغط أو القلق من عدم الوصول إلى المثالية المفرطة؟ وكيف يمكنني أن أوازن بين الاحتفاظ بقيمنا وتقاليدنا وبين الانفتاح على الجديد في التربية؟

أنتظر ردك الكريم، وأتمنى أن تتيحين لي الفرصة لتوجيه هذه الأسئلة إلى شخص حكيم مثلكِ. جزاكِ الله خيرًا وبارك في علمكِ وفي عملكِ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الإجابة 15/04/2025

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أختي المباركة،

 

أشكر لكِ صدقك وشفافيتك، وأشكر قلبك الحيّ الذي ما زال ينبض بالتساؤل عن الحق والحكمة وسط ضجيج هذا العصر المرهق.

 

كم هو مريح أن نجد من ما زال يبحث عن الاعتدال وسط تيارات المثالية المبالغ فيها والانفلات غير المحسوب. أسأل الله أن يرزقكِ السكينة، ويبارك لكِ في بيتكِ وأهلكِ وذريتكِ، وأن يجعل من قلقكِ هذا بوابة نور وفهم.

 

دعيني أبدأ رسالتي إليكِ بقول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾.. هذه الآية الكريمة ليست فقط قاعدة شرعية، بل هي طوق نجاة نفسي وروحي، فيها تقدير إلهي لطاقة الإنسان البشرية، فلا كمال مطلوب، ولا معايير مثالية مفروضة، بل هناك وسعكِ أنتِ، بما تملكين من ظروف وطاقة وواقع.

 

أولاً: بالنسبة للمثالية الزائفة التي تُفرض علينا

 

فدعيني أشرح لك بداية، بطريقة مبسطة وسريعة، المعنى النفسي التربوي إجمالاً:

 

تُصنف هذه الظاهرة ضمن ما يُعرف بـ "The Supermom Syndrome"، أي "متلازمة الأم الخارقة"، وهي حالة من الضغط النفسي المزمن، تؤدي إلى الإرهاق العاطفي، بسبب سعي المرأة غير الواقعي لأن تكون أمًّا وزوجة مثالية في كل شيء.

 

وسائل التواصل الاجتماعي لا تنقل الحقيقة كاملة، بل تنقل "The Highlight Reel"، أي لقطات مختارة بعناية، تُظهر الأفضل وتُخفي الباقي، فتؤدي إلى ما يُسمى بـ Social Comparison Trap، أي "فخ المقارنة الاجتماعية"، وهو من أخطر محفزات القلق واحتقار الذات.

 

وقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى فرائضه"، فحتى في إقامة الفرائض لا بد من التهوين على النفس؛ فديننا يسر لا عسر –حبيبتي- والمثالية المفرطة ليست من الدين، ولا من الفطرة، بل هي إرهاق للنفس، وتشويه لصورة الواقع.

 

ثانيًا: أما إن تحدثنا عن التربية الهادئة والبسيطة التي عاشتها أمهاتنا

 

فنعم، لقد كانت الجدات يربيننا دون فلاتر أو دورات تربوية، ولكنهن كُنّ يمتلكن أشياء أعظم، مثل: الحضور القلبي، الفطرة السليمة، والإخلاص في النية، كما أن المستوى المعيشي لم يكن مرتفعا هكذا، فضلا عن الغزو التكنولوجي، فحدِّث ولا حرج.

 

والتربية ليست بعدد الكورسات، بل في القدوة الصادقة، والحوار المتزن، والنية الطيبة. وفي علم النفس الأسري يُسمى ذلك بـ "Authentic Parenting"، أي "التربية الأصيلة"، وهي التي تنبع من داخل الأم، لا من توجيهات بعيدة أو من ضغط خارجي، غير متناسبين مع ظروفنا وطبيعتنا.

 

غاليتي، التوازن الحقيقي في التربية، يكمن في "الأمومة الكافية لا المثالية" وهي تربية قائمة على الوعي، والمرونة، والتدرّج، والقبول بأننا بشر نُخطئ ونتعلم.

 

ثالثًا: نأتي إلى كيف نوازن بين قيمنا والتطور؟!

 

التربية اليوم تتطلب مرونة فكرية، ومعرفة بالواقع، ولكن لا تعني أبدًا التخلي عن جذورنا، فنحن لسنا أمام خيارين متناقضين: إما أن نعيش كأمهاتنا أو ننساق خلف صخب البلوجرز. بل يمكننا أن نُربّي أبناءنا بتقنيات معاصرة، دون التفريط في القيم التي جعلتنا ناضجين، ناجحين، متوازنين.

 

يقول تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾، و"الوسطية" هنا ليست مجرد خيار فكري، بل هي منهج حياة.. نأخذ من الجديد ما يدعم فطرتنا، ونترك ما يُخالفها.

 

رابعًا: حبيبتي الغالية

 

لا شك أنه من الطبيعي أن تشعري بالقلق أحيانًا، فهو علامة على الوعي والتأمل، لكن لا تسمحي له بأن يتحوّل إلى جلد للذات أو ضغط دائم. ذكّري نفسك دومًا أن هدفنا ليس الكمال، بل النية الصادقة، والاستمرارية الهادئة، والتعلم المستمر.

 

كلما شعرتِ أنكِ غير كافية تذكّري قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"؛ فثقي في الله تعالى أنه إن علم منكِ صدق السعي، فلن يضيع تعبكِ أبدًا.

 

خامسًا: وأخيرًا لكي يطمئن قلبك وتهدأ سريرتك يا عزيزتي، فينبغي أن تدركي، أن:

 

- لا أحد يُربّي دون أخطاء.. ولكن الأم الواعية تتعلم منها، وتُرمم.

 

- كذالك، لستِ مطالبة أن تكوني خارقة، فقط كوني صادقة.

 

- بيتك ليس مشروعًا استعراضيًّا، بل حضن دافئ لأرواح تنمو نموًا صحيحًا يرضي الله عز وجل أولا ثم يرضي قناعاتنا.

 

- واعلمي أن الحب والاتزان أهم من المثالية.. وأن التوازن بين الأصالة والتجديد هو مفتاحك إلى الطمأنينة.

 

- واعلمي أيضًا أن الله تعالى هو من يربي لنا، ونحن فقط نتوكل على الله، ثم نأخذ بالأسباب ونفعل ما وكلنا به، ثم نترك الأمر في النهاية له سبحانه جل شأنه.

 

* وهمسة أخيرة لغاليتي من القلب:

 

لا تقيسي نفسك على صور مؤقتة، بل على أثر دائم.

 

لا تسعي للكمال، بل للسَّكينة.

 

ولا تخشي أن تكوني مختلفة؛ فالأصالة اليوم أصبحت ميزة لا تُقدَّر بثمن.

 

جزاكِ الله خيرًا على سؤالكِ العميق، وفتح الله على قلبكِ بنور الطمأنينة.. نورتِ موقعنا للاستشارات، وأنا هنا دومًا إن أردتِ المتابعة، فأسئلتكِ تستحقّ التأمل والاهتمام.

الرابط المختصر :