Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. أميمة السيد
  • القسم : تربوية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 120
  • رقم الاستشارة : 1653
16/04/2025

أنا امرأةٌ تجاوزت العام الـ١٣ من زواجي، تزوجت برجلٍ طيب المعشر، حسن الخلق في عموم سلوكه، لكنه بات في السنوات الأخيرة يميل للانطواء عن أسرته والانشغال المفرط بأصدقائه. نحن نقيم في دولة أوروبية، حيث المغريات والفتن تحيط بنا في كل مكان، وهذا يُحتم علينا مزيداً من التماسك الأسري والاحتواء.

زوجي يقضي يومياً قرابة 6 إلى 8 ساعات، في المقهى مع مجموعة من أصدقائه، وقد يصل بهم الأمر إلى التنقل بين المقاهي أو متابعة مباريات الكرة أو النقاشات الطويلة التي لا تنتهي. المؤلم في الأمر أن هذا يحدث حتى في أيام عطلاتنا أو في المناسبات العائلية، وكأن وجوده معنا لا يمثل له أولوية.

لدينا ثلاثة أبناء: بنتان في سنّ ما قبل المراهقة، وولدٌ بدأ أولى خطواته في مرحلة المراهقة الحرجة، وأشعر أنهم باتوا يلحظون تغيُّب أبيهم المعنوي، ولا يخفون استياءهم من انشغاله الدائم. كما بدأت ألمح بوادر تقليد من الابن لأبيه، من حيث الانشغال بالمحادثات الطويلة مع أصدقائه عبر الإنترنت، وإهمال أسرته ومهامه الدراسية.

حاولت مراراً وتكراراً مناقشة زوجي بالحسنى، أذكره بأولوياته كأب وزوج، وأُبين له حاجتنا إليه مادياً ومعنوياً، خاصة أننا نمر بظروف مالية صعبة تتطلب تعاونه وتواجده. لكنه يرى أن الجلوس مع الأصدقاء هو متنفّسه الوحيد، وأنه لا يرتكب شيئاً محرماً. فهل ما يفعله من هدر للوقت، وتقصير في حق أسرته، يعدّ من الأمور التي يؤثم عليها شرعاً؟ وهل أكون مخطئة إن طلبت منه أن يوازن بين واجباته وأوقاته الخاصة؟

الإجابة 16/04/2025

أهلاً بك أختي الكريمة،

 

بادئ ذي بدء، أحيّي فيكِ يقظتكِ التربوية، وحسن نظرتك المستقبلية التي لا تقتصر على الحاضر فحسب، بل تمتد لتحتضن مصير الأبناء، وسلامة الأسرة النفسية، واستقرارها القيميّ والعاطفي.

 

وما ذكرتِه من معاناةٍ ليس بالأمر الهين، بل هو من التحديات المعاصرة التي تمس بنية الأسرة العاطفية والتربوية في مقتل، لا سيما في ظل مجتمعات غربية لا تحمل كثيرًا من الضوابط الأخلاقية، مما يضاعف من مسؤوليات الوالدين معًا.

 

ولذلك أوجه كلامي الآتي إلى كل أب وأم كلّفهم الله تعالى بأمانة رعاية الأبناء:

 

أولاً: لا بد أن نعلم أن الانسحاب الأبوي والغياب العاطفي المستمر عن الأبناء يؤدي إلى ظهور اضطرابات في السلوك والانتماء، وضعف في نموذج القدوة، خصوصًا لدى الأبناء الذكور الذين يبحثون دائمًا عمّن يحقق لهم التوازن العاطفي والانضباط السلوكي.

 

إن المراهقين على وجه الخصوص، يمرّون بمرحلة حرجة من "تكوين الهوية" (Identity vs. Role Confusion)، فإن لم يجدوا أمامهم نموذجًا أبويًّا متزنًا يُحتذى به، فإنهم يعمدون غالبًا إلى تقليد النموذج الأسهل: الأصدقاء، أو المؤثرين، أو حتى الأب نفسه ولكن في سلوكياته غير المرغوبة!

 

ثانيًا: لا يُخفى على عاقل أن الإسلام جعل للأسرة حرمة وقداسة، وجعل من واجبات الزوج أن يكون "راعيًا" لأهله، كما في الحديث الصحيح: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته"؛ فالانشغال المستمر عن الأسرة، حتى وإن لم يكن في معصية، يدخل في باب التفريط، وقد نصّ العلماء على أن الإخلال بحقوق الأهل والأبناء يُعدّ من صور العقوق التي يُسأل عنها العبد، فكيف إذا أضيف إليها تأثير سلبي على الأبناء، وضياع للوقت، وتقصير في المسؤوليات المالية، والتربوية، والعاطفية؟

 

 

ثالثًا: إذا نظرنا من زاوية التأثير التراكمي على الأبناء:

 

فسنجد أن الأب ليس مجرد شخصٍ يُوفّر المال، بل هو حجر الزاوية في بناء الشعور بالأمان والانتماء، والقدوة العملية في إدارة الوقت والعلاقات. وحين يرى الطفل أن والده يفضّل الأصدقاء على الجلسات العائلية، فإن ذلك يُغرس في لاوعيه على أنه النموذج المقبول للرجولة، فينشأ الابن على التفكك العاطفي وضعف الالتزام، وربما تتشوه مفاهيم العلاقات في ذهنه.

 

رابعًا: ولكن لا بد أن نعلم أيضًا أن هناك حكمة تربوية وحياتية في لقاء الأصدقاء، فليس هناك حرج منها، بل إن الإسلام حثّ على الصحبة الصالحة، ولكن دون إفراطٍ يضيع به الواجب، أو تفريطٍ في الحقوق. قال الإمام الشافعي:

 

ولا خيرَ في وُدِّ امرئٍ متلوِّنٍ  **  إذا الريحُ مالت مال حيث تميلُ

 

فالمرء الحكيم هو من يُوازن بين حاجاته الشخصية وحاجات من حوله، فلا يُؤثر لهوًا على مسؤولية، ولا متعةً وقتية على أمانة دائمة.

 

* والآن أوجه نصائحي إليك عزيزتي وماذا يمكنكِ أن تفعلي مع زوجك لمحاولة إصلاح أوضاعه الحالية:

 

١- لا بد من الحوار مجددًا ولكن بلغة غير تقليدية:

 

ابتعدي عن لغة الشكوى وادخلي بلغة "المكاشفة" و"الاشتراك في المسؤولية". بيّني له أثر ذلك على أبنائه دون اتهام، بل بصيغة "أنا ألاحظ أن... وأشعر أن...".

 

٢- يمكنك توظيف الأبناء بشكل غير مباشر:

 

اجعليهم يكتبون له رسائل صغيرة، أو فيديو قصيرًا يحمل مشاعرهم دون ضغط أو لوم، ليرى بعينيه كم هو يُفتقد.

 

٣- وجميل هو ربط الأمر بالقدوة الدينية:

 

ذكّريه بلينٍ، كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم البشر، يقسّم وقته بين العبادة والجهاد وأهله، وكان يقول: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي".

 

٤- بالتدريج عليك إشراكه في برامجكم الأسرية أو الاجتماعية المشتركة:

 

كأن تحثّيه على حضور نادٍ أُسَري أسبوعي، أو دعوته ليوم عائلي خارج المنزل بمشاركة الأصدقاء أيضًا، على أن يُدرّج الأمر حتى يعتاد على أولوية الأسرة.

 

٥- ما يفعله زوجكِ –إن استمر على هذه الصورة من الإفراط والتقصير– فإنه يُعدّ نوعًا من التفريط في الأمانة، فيجب أن يكون لك موقف حاسم بدون انفعال أو عنف تؤكدين له فيه: بأنه حتما سيُسأل عن أفعاله هذه، وهو لا يخلو من الإثم إذا ترتّب عليها ضياع للحقوق أو تقصير في النفقة أو التأثير السلبي على النشأة النفسية للأبناء.

 

* همسة أخيرة:

 

أختي الغالية.. اجتهدي ما استطعتِ في الإصلاح، وادفعيه بالحكمة والموعظة الحسنة، واستعيني بالصبر والدعاء، واستبشري بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

 

أسأل الله أن يشرح له قلبه، ويبارك لكِ في أسرتكِ، ويجعل بيتكِ عامرًا بالمودة والسكينة.

الرابط المختصر :