Consultation Image

الإستشارة 11/02/2025

أنا مشرف في دار للأيتام، وبحكم عملي في التعامل مع الأطفال أسمع منهم أسئلة تتعلق بالقضاء والقدر ونصيبهم من الحياة، تدور حول لماذا جعلهم الله دون غيرهم أيتامًا؟ وجعلهم يقاسون مرارة اليتم والتعرض للضياع، وهل في المقابل سيميزهم الله بشيء مقابل هذه النعمة التي افتقدوها؟ مثل أن يحبهم أكثر أو يفضلهم في الرزق أو حتى في الآخرة فيدخلون الجنة مباشرة جزاء على يتمهم في الدنيا، وأشياء من هذا القبيل نظرا لسنهم الصغير وحدود عقلهم. فبماذا أجيبهم عن هذه الأسئلة، أريد إجابات تناسب فهمهم وتفكيرهم وعلى قدر عقولهم. مع الشكر.

الإجابة 11/02/2025

أخي المشرف الكريم، صاحب القلب الكبير والمهمة العظيمة، حياك الله، ووفقك لأداء رسالتك العظيمة، وأثابك عليها خير الثواب، وبعد...

 

فأنت لست مجرد مشرف في دار للأيتام، بل أنت أبٌ ثانٍ، ويد حانية، وقلب يحتضن هؤلاء الأطفال الذين فقدوا آباءهم؛ لكنهم لم يفقدوا عناية الله ورحمته. وأنت الآن تواجه أسئلة نابعة من قلوبهم البريئة، أسئلة قد تحمل في طياتها ألمًا؛ لكنها أيضًا بابٌ لطمأنة قلوبهم وربطهم بالله الرحيم.

 

لذا، حين تجيبهم، لا تخبرهم فقط بالمعلومات، بل خاطب قلوبهم بلغة الحب والاحتواء، ليشعروا بأن الله لم يتركهم، بل اختارهم ليكونوا في كنفه مباشرة. اجعل كلماتك نورًا يضيء دربهم، ويدًا تمسح على رؤوسهم بحنان، تمامًا كما كان يفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الأيتام.

 

وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، هناك مفهوم من المهم جدًّا تثبيته والتأكيد عليه، وهو أن اليُتم ليس مسبةً ولا عارًا ولا عيبًا ولا نقيصةً، بل قد يكون علامة قوة واصطفاء. وأحب الخلق إلى الله وأعزهم وأشرفهم، نبينا محمد –صلى الله عليه وسلم- كان يتيمًا! وُلد دون أن يرى والده، وفقد أمه وهو طفل صغير؛ لكنه لم يكن أبدًا ضعيفًا أو ناقصًا، بل كان أعظم إنسان في التاريخ، قاد أمةً، ونشر الرحمة، وعلَّم البشرية، وكان أحبَّ خلق الله إلى الله.

 

وليس النبي -صلى الله عليه وسلم- وحده، فكثير من عظماء التاريخ كانوا أيتامًا، واجهوا الحياة دون والدين، لكنهم لم يسمحوا لليتم بأن يكون حاجزًا دون نجاحهم، بل جعلوه دافعًا للنجاح والتفوق.

 

وهذه بعض الإجابات التي يمكنك أن نجيب بها عن أسئلتهم بطريقة تناسب عقولهم وسنهم، وتستطيع طبعًا أن تخفف الألفاظ والكلمات وتجعلها أقرب إلى آذانهم وقلوبهم، أسأل الله لي ولك التوفيق.

 

ولدي الحبيب، أعلم أنك تحمل في قلبك أسئلة كثيرة، وربما تشعر أحيانًا بالحيرة أو الألم، وهذا طبيعي؛ لأن القلب الطيب يسأل، والعقل الذكي يبحث عن الحكمة. ولكن قبل أن نبحث عن الإجابات، دعنا نضع أيدينا في يد الله، فهو الرحمن الرحيم، الذي يعلم كل شيء، ويحبنا أكثر مما تتخيل.

 

الله -سبحانه وتعالى- لم يخلق شيئًا عبثًا، وكل ما يحدث في الدنيا له حكمة، حتى وإن لم نرها الآن. فدعنا نفتح قلوبنا لنفهم لماذا كتب الله لك هذا الطريق، وما الخير الذي أعده لك.

 

لماذا جعلني الله يتيمًا؟

 

حين يسأل أحدكم: لماذا جعلني الله يتيمًا؟ فهو يسأل سؤالًا كبيرًا عن حكمة الله في أقداره. والله، يا بني، لا يفعل شيئًا إلا لحكمة عظيمة، حتى لو لم ندركها الآن.

 

الله اختار لك طريق اليتم، لكنه لم يتركك وحدك، بل تكفل بك، وجعل لك أشخاصًا يحبونك ويرعونك، مثل المشرفين في الدار، مثل الناس الطيبين الذين يسألون عنك، بل والأهم، جعلك في كنفه مباشرة، فهو وليّ اليتيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى [رواه البخاري]. وهذا يعني أن الله يحبك جدًّا، لدرجة أنه جعل كافلك جارًا ملاصقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة. فأنت قوي بحب الله لك.

 

هل الله يحبني أكثر بسبب يتمي؟

 

الله يا بني يحب جميع عباده، لكنه يحب الذين يصبرون على الابتلاءات ويحمدونه عليها، ويجعل لهم أجرًا عظيمًا. وقد قال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

 

فإذا كنت صابرًا على فقدان والديك، وراضيًا بما قسمه الله لك، فإن الله يعد لك ثوابًا كبيرًا، وربما يرفعك في درجات لا يصل إليها غيرك. وإذا كان الله يعطي الجنة لمن يرعى اليتيم، فكيف بك وأنت اليتيم نفسه؟ ألا تظن أن الله يحبك ويدخلك الجنة برحمته؟

 

هل سيعوضني الله في الدنيا أو الآخرة؟

 

نعم، فالله عادل ورحيم، ولا يترك عباده دون تعويض عما لاقوه من ابتلاء في الدنيا، ينسيهم شقاءه وتعبه وبؤسه؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يُؤْتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنْيا مِن أهْلِ الجَنَّةِ، فيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فيُقالُ له: يا ابْنَ آدَمَ، هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقولُ: لا واللَّهِ يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قَطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ»، فالجنة دار الخلود، حيث لا فقدان ولا ألم، وهناك يرى اليتيم والديه مرة أخرى، ويعيش في سعادة أبدية  معهما، فقد قال الله في كتابه الكريم: ﴿وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَـٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [الطور: 21]، أي أن الله يجمع العائلات المؤمنة في الجنة، فلا يكون هناك فراق أبدًا.

 

هذا في الآخرة، ولكنْ لك تعويض أيضًا في الدنيا يعتمد على اجتهادك وعزيمتك، بجانب توفيق الله، ولكنه يأتي بصور مختلفة:

 

1- تعويض في القلب: ستشعر في نفسك بأنك أقوى من غيرك، وأكثر نضجًا، وأشد قربًا من الله.

 

2- تعويض في الحب: فقد تجد الله يضع في طريقك أشخاصًا يحبونك بصدق، مثل الأب الذي فقدته، أو الأم التي تشتاق إليها.

 

3- تعويض في المستقبل: فربما يكبر أحدكم ليكون عالمًا، أو قائدًا، أو شخصًا نافعًا للمجتمع؛ لأن الله يعد له مكانًا عظيمًا.

 

هل سندخل الجنة مباشرة لأننا أيتام؟

 

يا بني، دخول الجنة يكون برحمة الله، وليس فقط بسبب اليتم. لكن الله وعد اليتيم برعاية خاصة، وإذا كنت قريبًا من الله، وتعمل الخير، وكنت صبورًا حامدًا، فسيكون لك مكان مميز عنده سبحانه.

 

أخي السائل الكريم، لا بأس مع كل إجابة من هذه الإجابات، في أن تذكرهم دائمًا: يا أبنائي، أنتم لستم وحدكم، أنتم في كنف الله، ومن كان الله معه، فلن يضيعه أبدًا. أنتم مميزون بحب الله لكم، ومهما كانت الحياة صعبة، فإن الجنة تستحق الصبر.

 

ابتسموا، فإن الله يعد لكم أقدارًا جميلة، والفرح قريب، سواء في الدنيا أو في الآخرة؛ حيث لا ألم ولا حزن أبدًا أبدًا.

 

جزاك الله خيرًا أيها المشرف الكريم، وبارك في قلبك الذي يحمل همَّ هؤلاء الأيتام، ويسعى لتطمينهم وإرشادهم.

 

أسأل الله أن يرزقك الحكمة في القول والعمل، وأن يجعل كلماتك نورًا يضيء قلوب الأيتام، وأن يكتب لك أجر كل ابتسامة ترسمها على وجوههم، وكل لحظة طمأنينة تُدخلها إلى قلوبهم. موفق بإذن الله.

الرابط المختصر :