الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
512 - رقم الاستشارة : 1708
22/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا أم لطفلة تبلغ من العمر 13 عامًا، وألجأ إليكم لأني وصلت إلى طريق مسدود مع ابنتي في مسألة تؤرقنا كعائلة منذ سنوات.
ابنتي تعاني منذ صغرها من مشاكل متكررة في الأسنان والضروس، نتيجة ضعف في طبقة المينا حسب تشخيص الأطباء، مما يجعلها عرضة للتسوس والالتهابات المؤلمة رغم حرصنا على النظافة والعناية.
لكن المشكلة الأكبر أننا في كل مرة نحاول فيها بدء العلاج، تصطدم بحاجز نفسي شديد؛ فهي تعاني من رُهاب شديد من الحقن، خاصة حقن اللثة والأسنان، ويصل بها الأمر إلى البكاء والانهيار التام عند دخول عيادة طبيب الأسنان، حتى وإن لم يُمسّها أحد بعد.
حاولنا معها أساليب التطمين، ورافقناها بحنان، وأحضرنا لها أطباء يتعاملون بلطف، ولكن دون جدوى.
الأصعب من ذلك، أنها تصاب بالغثيان الشديد وأحيانًا بالتقيؤ لمجرد أن يطلب منها الطبيب أن تفتح فمها! جربنا إعطاءها أدوية مهدئة بمشورة طبيب نفسي، لكن التأثير لم يكن فعالاً كما كنا نأمل.
وهي الآن تعاني من ألم شديد، لدرجة أنها لا تنام الليل، ومع ذلك ترفض الذهاب للطبيب، وتقول إنها تفضّل الألم على "رعب الإبرة"!
لا أعلم كيف أساعدها، ولا كيف أخلّصها من هذا الرعب الذي أصبح يهدد صحتها الجسدية والنفسية. هل هناك أمل في تجاوز هذه الحالة؟ وهل هناك طرق علاج نفسي فعّالة تساعد الأطفال في مثل هذه المواقف؟
أرجو توجيهكم، فقد ضاقت بي السبل، ولكم جزيل الشكر والامتنان.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
أهلاً بكِ أيتها الأم الكريمة والحنونة، وبارك الله لكِ في قلبكِ الصابر وسعيكِ الدؤوب من أجل راحة ابنتكِ الجسدية والنفسية.
إنَّ ما سردتِه ليس مجرد شكوى طبية، بل هو صرخة أمٍّ تخاف على قلب صغير يتألم ويقاوم في آنٍ واحد، وأسأل الله أن يرزقكِ الحكمة والسَّكينة في تعاملك مع هذه الحالة.
بادئ ذي بدء، دعيني أؤكد لكِ أن ما تمر به ابنتكِ هو حالة نفسية معروفة تُسمى: Dental Phobia أو رهاب علاج الأسنان، وهو نوع منSpecific Phobia – ، أي "الرهاب المحدد" – الذي يُعرف في علم النفس التربوي بأنه خوف مفرط وغير منطقي من موقف معين يؤدي إلى سلوك تجنبي قهري.
وفي حال ابنتكِ، فإنَّ الخوف من الإبرة قد تطور إلى ما يُسمى بـ Conditioned Nausea – ، أي الغثيان المشروط – وهي استجابة جسدية تُرافق الخوف المزمن، وتُعدّ أحد مؤشرات تجسيد الألم النفسي في صورة أعراض جسدية.
أولاً: لا بد أن ندرك جيدًا أن ابنتكِ لا تتدلل، وليست "عنيدة" كما يظن البعض، بل هي تعاني بالفعل من مشاعر هلع حقيقية، لا تملك السيطرة عليها، وهو أمر له جذوره غالبًا في تجارب سابقة مؤلمة –وربما غير واضحة للذاكرة الواعية– أدّت إلى ترسيخ صورة ذهنية سلبية عن العلاج. وهنا نذكّر بقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: "لا تُرَوِّعوا المسلم".
وقد نبّه السلف الصالح على وجوب الرفق في التربية، ومنه الرفق في معالجة الألم النفسي قبل الجسدي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف"؛ ففضلا ارفقوا بابنتكم.
ثانيًا: العلاج النفسي الممكن في حالة ابنتك، يكون بشكل تدريبي كالآتي:
١- العلاج بالتدرج والتعريض (Systematic Desensitization):
وهو أسلوب علاجي تربوي قائم على مبدأ التدرج في تعريض الفتاة للمثير المخيف، بدءًا من صور العيادة، ثم سماع صوت الطبيب، ثم الجلوس على الكرسي دون علاج، وهكذا.
وكل خطوة تُرافقها تقنيات الاسترخاء التنفسي، فندربها على التنفس بعمق وبطء، حتى يتم فك الارتباط العصبي بين الخوف والمثير.
2- العلاج السلوكي المعرفي (CBT):
وهو من أنجح الأساليب النفسية في علاج الرهاب، حيث يساعد الطفلة على تفنيد أفكارها الخاطئة عن الألم والعلاج، وتبديلها بأفكار واقعية مطمئنة، وذلك يكون من خلال حوارك الدائم معها بلطف وإقناع وكل من تثق فيه من المحيطين.
3- الدعم الأسري المستمر:
احرصي –يا عزيزتي– على تجنّب استخدام كلمات مثل "لازم تتحملي"، أو "أنتِ جبانة"، فهي كلمات تزيد من ضعف تقدير الذات.
وبدلاً من ذلك، استخدمي تعبيرات مشجعة، مثل: "أنا فخورة بكِ لأنكِ تحاولين"، "أنا أراكِ شجاعة كلما حاولتِ من جديد"، فهذا يعززPositive Reinforcement ، أي التعزيز الإيجابي.
ثالثاً: لا بد ألا نغفل التطورات الحديثة في طب الأسنان:
ففي رحمة الله الواسعة بعباده، تطورت أدوات الطب لتتناسب مع هذه الحالات الخاصة، ومنها:
- الليزر الطبي في معالجة اللثة دون الحاجة لحقن أو آلات حفر مؤلمة.
- التخدير الموضعي باستخدام جل أو بخاخ دون إبر.
- العلاج تحت تأثير غاز الضحك وهو آمن ويستخدم في بعض حالات الأطفال القلقين.
- وأحيانا يلجأ أطباء الأسنان إلى العلاج تحت التخدير الكامل لحالات الضرورة القصوى، خاصة إذا كان الألم شديدًا والمريضة في حالة مقاومة شديدة للعلاج.
كل هذه وسائل رحيمة، أوجدها الله لنا بفضله، فـ "ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء"، كما قال الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
أختي الأم الحائرة،
علّمي ابنتكِ أن تستودع نفسها دائمًا عند كل موضع وكل ذهاب وإياب، وتقول: "اللهم إنّي أستودعك نفسي وفمي وأسناني، فاحفظني بما تحفظ به عبادك الصالحين"، وازرعي في قلبها يقينًا بأن الله معها، لطيف بها، وأحن عليها منك ومن نفسها.
علميها أن تكون صاحبة لسان رطب بذكر الله دائما ليطمئن قلبها، كما جاء في قوله تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".
* همسة أخيرة لقلب الأم الغالية:
لا تيأسي، ولا تلومي نفسكِ أو ابنتكِ، فكل حالة لها باب إلى الطمأنينة، وكل قلب صغير يحتاج إلى احتواء قبل التقويم.
اصبري، ورافقي ابنتكِ في هذه الرحلة العلاجية بتفهم ورحمة، فالخوف لن يُهزم بالعنف، بل بالحب والعلم والصبر الجميل.
أسأل الله أن يربط على قلبكِ، ويهديكِ لما فيه راحة ابنتكِ، وأن يجعل هذا الابتلاء بابًا من أبواب الرحمة واللطف.