نادمة على اختياراتي الماضية.. وصفة لإصلاح الحاضر

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : وساوس وشكوك
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 144
  • رقم الاستشارة : 2452
21/08/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

أنا امرأة متزوجة، في أواخر الثلاثينيات، وعندي عيال الله يصلحهم. الحمد لله حياتي مستقرة ومو ناقصني شيء، بس ما أدري ليش... بين فترة وفترة تجيني حالة أسترجع فيها شريط الماضي، وأجلس أتخيل لو أني سويت شيء مختلف. مثلاً، لو كملت دراستي الجامعية وما تزوجت بدري، أو لو وافقت على فلان اللي تقدم لي قبل زوجي...إلخ.

أحس إني ندمانة على اختياراتي اللي سويتها، وألوم نفسي كثير. يوصل بي الحال أحيانًا إني أتمنى لو إني عشت حياة غير هذي تمامًا، وهذا الشيء مسبب لي ضيق وحزن.

سؤالي يا شيخ: كيف أتصالح مع هذا الشعور؟

وهل مجرد التفكير في هذا التمني يعتبر اعتراضًا على قدر الله وحكمته؟

وهل هذا الندم الشديد حرام؟

الإجابة 21/08/2025

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته...

 

مرحبًا بك أختي الفاضلة، وأسأل الله أن يبارك لك في حياتك وزوجك وأبنائك، وأن يملأ قلبك بالسكينة والطمأنينة، وبعد...

 

فكثيرًا ما تمر بنا –كلنا- لحظات تتسلل فيها تلك الأفكار إلى عقولنا وقلوبنا، ونتساءل فيها: «ماذا لو؟». تلك اللحظة التي نراجع فيها شريط الماضي، ثم نشرع في رسم لوحة أخرى لحياتنا، ونتصورها كحياة بديلة كان من الممكن أن نعيشها!

 

هل مجرد التمني يعدُّ اعتراضًا على القَدَر؟

 

أختي الكريمة، إن مجرد الخواطر والأفكار التي تداهم العقل لا تُعد بذاتها اعتراضًا على قدر الله، ما دامت النفس تكرهها وتجاهدها. فالمؤمن الحقيقي يدرك أن كل ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وهذا هو جوهر الإيمان بقضاء الله وقدره. ويقول الله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكمْ إِلَّا فِي كتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِك عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ . لِكيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ [الحديد: 22، و23]. فكل شيء مسطور ومقدَّر قبل أن يحدث، والكون كله يمشي وفق حكمة إلهية قد لا تدركها عقولنا القاصرة.

 

وصدق رسولنا الكريم ﷺ حين قال: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، فإن لو تفتح عمل الشيطان، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل» [رواه مسلم].

 

فعلينا –أختي الفاضلة- أن نفرِّق بين التفكير العابر، وبين التمادي في «لو». الأول قد يكون وسوسة من الشيطان ليحزنك ويقلقك، أما الثاني فهو خطيئة قد تجرك إلى السخط والاعتراض، وهو ما نهانا عنه النبي ﷺ. فلا تدعي تلك الأفكار تتملكك، بل ادفعيها بالاستعاذة بالله والرضا بقضائه.

 

هل هذا الندم حرام؟

 

الندم على أمر فات لا يرجع هو شعور طبيعي، ولكنه قد يتحول إلى ذنب إذا أصبح سخطًا على القدر. الندم الذي تشعرين به -يا أختي- غالبًا ما يكون ناتجًا عن مقارنة حياتك الحالية بحياة خيالية لم تحدث. هذا الندم ليس حرامًا في ذاته، ما دام لم يوصلك إلى السخط على ربك، ولكنه قد يكون مدخلًا للشيطان ليفسد عليك سعادتك.

 

تذكري أننا جميعًا نتخذ قراراتنا بناءً على المعطيات المتاحة في لحظة اتخاذ القرار. إنك وقت هذه القرارات لم تكوني تعلمين الغيب، ولم يكن بمقدورك أن تعرفي ما هو الأفضل لك. والله -سبحانه وتعالى- هو وحده من يعلم أين الخير، وقد اختار لك ما أنتِ فيه اليوم، ومن أجل ضمان ذلك الاختيار شرعت لنا صلاة الاستخارة، مع أخذ الأسباب الأخرى من البحث والتفكير والتحري والاستشارة.

 

كم من قصص سمعناها ورأيناها، كانت بداياتها مؤلمة، ثم كانت نهايتها خيرًا وبركة. كم من امرأة تأخر زواجها فكان خيرًا لها والعكس، وكم من أخرى تزوجت مبكرًا فكان شرًّا لها والعكس. تذكري قصة نبي الله موسى -عليه السلام- مع العبد الصالح، فقد كان خرق السفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، كلها أفعال ظاهرها الشر؛ لكن باطنها الخير، بإذن الله وبعلمه ومشيئته وقدره.

 

كيف تتصالحين مع هذا الشعور؟

 

أختي الكريمة، إن التصالح مع هذا الشعور يبدأ من قلبك، ومن تجديد علاقتك بالله، وذلك من طريق:

 

1- تعمَّقي في فهم القدر والرضا به:

 

إن الإيمان بالقدر ليس مجرد كلمة نرددها؛ بل هو فلسفة حياة. إنه إيمان عميق بأن حياتك بكل تفاصيلها هي هبة من الله، وبأن كل اختيار اتخذتِه كان بقدرته وعلمه. انظري إلى حياتك اليوم، انظري إلى زوجك الذي قد يكون نعمة كبيرة، وإلى أبنائك الذين هم قرة عين لك. هل كنت ستنعمين بكل هذا لو اتخذتِ قرارًا آخر؟ ربما كان ذلك الاختيار الآخر ليحرمك من هذه النعم.

 

2- التركيز على الحاضر والمستقبل:

 

دعي الماضي حيث مضى، واجعلي طاقتك كلها موجهة إلى الحاضر والمستقبل. فكِّري في كيفية تحسين حياتك الآن، وكيفية تربية أبنائك. يمكنك البدء في تعلم شيء جديد أو ممارسة هواية ما. يمكن أن يكون هذا التعلُّم الجديد تعويضًا عن شعورك بالندم على ترك الدراسة.

 

3- تذكَّري فضل الله عليك:

 

يا أختي، ربما كانت اختياراتك التي تندمين عليها الآن هي في حقيقتها رحمة من الله بك. ربما كان مسار الدراسة الطويل سيثقل عليك، أو ربما لم يكن الزوج الآخر خيرًا لك. يقول الله عز وجل: ﴿وعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].

 

انظري إلى نعم الله عليك الآن، وحاولي أن تعديها: صحتك، زوجك الصالح، أبناؤك الذين هم ثمرة عمرك. يقول الله تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [سورة النحل: الآية 18]. فعندما يمتلئ قلبك بالحمد والشكر، لن يجد الندم مكانًا فيه.

 

كيف نحافظ على الحاضر من سطوة الندم؟

 

أختي الكريمة، إن الحاضر هو أغلى ما نملك. إنه اللحظة التي يمكننا أن نصنع فيها الخير، وأن نغرس فيها بذرة سعادة؛ لكن الندم على الماضي أشبه بالسرطان الذي يأكل هذا الحاضر ويدمره، ويجعلك تعيشين في وهْم حياة لم ولن تحدث أبدًا.

 

ولكي تحمي حاضرك من هذا الندم، أنصحك بما يلي:

 

1- ضعي هدفًا جديدًا لحياتك:

 

إن وجود هدف لحياتك يملؤها بالشغف، ويعيد لها البريق. اسألي نفسك: ما الشيء الذي تحلمين بتحقيقه اليوم؟ هل هو تطوير علاقتك بزوجك؟ أم تربية أبنائك على قيم معينة؟ أم تعلم مهارة جديدة؟ حددي هدفًا -أو أكثر- واجعليه بوصلة توجهك نحو المستقبل، بدلًا من النظر إلى الخلف.

 

2- اغتنمي كل لحظة مع عائلتك:

 

إن أجمل ما في حياتك الآن هو عائلتك، فلا تدعي الندم على الماضي يسرق منك لحظاتك معهم. اجلسي مع أبنائك، شاركيهم اهتماماتهم، واصنعي ذكريات جميلة مع زوجك. فهذه اللحظات هي التي ستشكل مستقبلك، وهي التي ستجدين فيها السعادة الحقيقية.

 

3- حوِّلي الندم إلى دافع للتغيير:

 

بدلًا من أن يكون الندم سببًا للحزن، اجعليه قوة دافعة.

 

على سبيل المثال: هل تندمين على عدم إكمال دراستك؟ لا بأس. هل يمكنك الآن أن تلتحقي بدورات عبر الإنترنت؟ أو أن تقرئي مزيدًا من الكتب؟ أو أن تُعلِّمي أبناءك بنفسك ما فاتك؟ إن هذا التحويل الإيجابي للندم هو ما يميز المؤمن القوي.

 

وختامًا أختي الفاضلة، إن الحياة ليست سلسلة من الاختيارات الصحيحة فقط؛ بل هي رحلة من النمو والتعلم عبر اختيارات عدة، بعضها صحيح وبعضها خطأ، وعلى كل مؤمن أن يتقبل ما تثمره هذه الاختيارات. فلا تسمحي للماضي أن يسرق منك لحظة سعادة في حاضرك. عيشي اللحظة التي أنتِ فيها، واستقبلي المستقبل بقلب مطمئن وروح متفائلة.

 

أكثري من الدعاء وذِكر الله، فهو بلسم القلوب. وادعي الله أن يملأ قلبك بالرضا والقناعة. أتمنى لك حياة ملؤها السكينة والطمأنينة. وتابعينا بأخبارك.

الرابط المختصر :