الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : وساوس وشكوك
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
16 - رقم الاستشارة : 2997
23/10/2025
أنا شخص في العقد الثالث من عمري ولدي مسؤوليات أسرية. منذ ستة أشهر تقريبًا، فقدتُ قريبًا عزيزًا بوفاة مفاجئة. ومنذ ذلك الحين، سيطر عليَّ خوف شديد ووسواس من الموت والاحتضار، خاصة في الليل، يصل إلى حد الشعور بأعراض بدنية (قلق وضيق)، مما أثر على حياتي ونومي وأدائي لمسؤولياتي.
فهل هذا الخوف المفرط يعد وسواسًا أم يقظة إيمان؟
وكيف أحقق التوازن بين تذكًّر الموت والعمل له، وبين أداء واجباتي الدنيوية؟
مرحبًا بك أخي الكريم، وشكرًا جزيلًا على تواصلك معنا. وأسأل الله أن يمدك بمدد من لدنه، وأن يثبتك ويطمئن قلبك، وأن يجعل الخير والتوفيق حليفك في كل أمر، وأن يرحم فقيدكم ويسكنه فسيح جناته، وبعد...
فإن صدمة الموت المفاجئ لشخص قريب وعزيز تهز أركان النفس، وتستدعي تساؤلات مهمة. فشعورك هذا طبيعي؛ لكنه يحتاج إلى توجيه وتصحيح للمسار ليكون وقودًا للعمل لا قيدًا يعيق الحياة.
هل هذا الخوف وسواس أم يقظة إيمان؟
إن يقظة الإيمان (الخوف المحمود)، هو شعور طبيعي وضروري يدفع إلى العمل الصالح والاجتهاد في الطاعة والاستعداد للقاء الله. هو خوف واعٍ يجعلك محاسبًا لنفسك كل وقت. وقد أمرنا الله بتذكر الموت والآخرة والعمل لهما، يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [سورة البقرة: 281]، ويقول ﷺ: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» يعني الموت [رواه الترمذي].
وثمرة ذلك التذكر: العمل، والتوبة، والإحسان، وتصحيح المسار في الحياة، والقيام بالواجبات الدنيوية كعبادة لله.
أما الوسواس (الخوف المذموم)، الذي يصل إلى حد الأعراض البدنية (قلق، ضيق، تأثير على النوم والأداء)، هو غالبًا ما يندرج تحت تصنيف الخوف المرضي أو الوسواس القهري المتعلق بالموت، في صورة معيقة للحياة. والدليل على أنك تعاني هذا الوسواس أنه أثَّر سلبًا على أدائك لواجباتك الدنيوية والأسرية، وهي واجبات شرعية أيضًا (كواجبك نحو زوجتك وأبنائك ومسؤولياتك). وما أدى إلى تعطيل واجب شرعي ليس عبادة.
إن هذا الوسواس يستغل حدث الفقد الأليم (وفاة القريب) كنقطة انطلاق ليحتل مساحة كبيرة من الوعي، ويحول التفكير إلى قلق بدني ونفسي مفرط، بدلًا من أن يكون دافعًا للعمل.
التوازن بين تذكُّر الموت وأداء الواجبات الدنيوية
هذا التوازن يتحقق بتحقيق مفهوم «الاستخلاف في الأرض» والجمع بين الحسنيين. فالإيمان الحق يتضمن التسليم بأن الموت ليس النهاية المطلقة؛ بل هو انتقال ولقاء، وهو قضاء الله الذي لا مفر منه، وموعده محدد لا يقدَّم ولا يؤخَّر: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [سورة الأعراف: 34]. فخوفك المفرط من الموت لن يغير موعده؛ بل يضيع عليك فرصة استثمار اللحظة الحالية في الطاعة والبر.
إن المؤمن يسير إلى الله بجناحين: جناح الخوف من عقابه، وجناح الرجاء في رحمته. والإفراط في الخوف يكسر جناح الرجاء، ويورث اليأس والقنوط أو الوسوسة.
فواجبك الشرعي الآن هو القيام بمسؤولياتك زوجًا، وأبًا، وعاملًا مستخلفًا في الأرض. وهذه الواجبات كلها هي عبادة في حد ذاتها؛ لأنك إذا أديت عملك ورعايتك لأسرتك بنية القربة والعبادة، فإنك تستعد للآخرة من باب واسع. وقد ورد في الأثر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا».
تذكَّر الصحابي الذي مر على النبي ﷺ وأصحابه، فأُعجبوا بقوة الرجل ونشاطه في كسب الرزق، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله؟ فقال النبي ﷺ: «إنْ كانَ خَرَجَ يَسْعَى علَى وَلَدِهِ صِغارًا فَهو في سَبيلِ اللَّهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعَى علَى أبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهو في سَبيلِ اللَّهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ يَسْعَى علَى نَفْسِهِ يَعِفُّها فَهو في سَبيلِ اللَّهِ، وإنْ كانَ خَرَجَ رِياءً ومُفاخَرَةً فَهو في سَبيلِ الشَّيْطانِ» [رواه الطبراني].
كيفية إدارة الخوف
* حدد وقتًا للتذكر: خصص وقتًا محدودًا ومنظمًا يوميًّا (مثلًا 10 دقائق بعد صلاة العشاء) لمراجعة نفسك وتذكر الموت والدعاء والتوبة، ولا تسمح لهذه الأفكار بالتدخل في بقية يومك ونومك.
* الذِّكر والاستغفار والدعاء: عندما تشعر بأعراض الضيق والقلق، قاومها بالذكر والدعاء والاستغفار مباشرة، أو قراءة ما يتيسر من القرآن.
* استعن بالصحبة: شارك أهل بيتك (زوجتك تحديدًا) أو صديقًا موثوقًا في بعض مما يجول بخاطرك لكسر عزلة الوسواس. إن الاحتواء الاجتماعي يخفف كثيرًا من وطأة القلق.
وختامًا أخي العزيز، إن الحياة رحلة قصيرة، ينبغي ألا نضيع لحظاتها فيما يشغلنا عن العمل الصالح. اجعل تذكر الموت صديقًا حكيمًا يهمس لك بالإتقان في العمل والبر بأسرتك، لا عدوًا معيقًا يوقفك عن أداء واجباتك.
استعن بالله، ومارس حياتك بانتظام وثقة، واعلم أن كل لحظة تقضيها مع أسرتك في بر وعطاء هي رصيد لك في الآخرة.
أدعو الله أن يطهر قلبك من كل وسواس، وأن يرزقك السكينة والطمأنينة، وأن يجمع لك بين خير الدنيا والآخرة، وأن يجعلك من المتقين العاملين لوجهه الكريم.
روابط ذات صلة:
هل عالجت نظرية إدارة الرعب رهبة الإنسان للموت؟
تُبت ولكني خائف من قدوم ملك الموت.. كيف أطمئن؟