الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : وساوس وشكوك
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
116 - رقم الاستشارة : 2632
08/09/2025
ربنا كرمني وعملت عمرة قريب، وكنت ناوية إنها تبقى بداية جديدة ليا، وتوبة صادقة أرجع بيها لربنا. وهناك في الحرم دعيت وطلبت من ربنا يغفر لي ويقبلني. ساعتها حسيت براحة وطمأنينة مش عادية، وحسيت إن الماضي بكل ذنوبه وتقصيره خلاص راح لحاله.
لكن للأسف بعد ما رجعت، بدأت تجيلي وساوس بتزن على وداني طول الوقت. يا ترى العمرة بتاعتي اتقبلت؟ وهل توبتي كانت صادقة؟ حاسة إن الماضي المليان ذنوب بيطاردني، وبيخليني أحس إني ما استاهلش رحمة ربنا ولا قبوله. وبدأ حماسي للطاعات اللي كنت بعملها يقل.
فإزاي أخرج من الحالة دي وأرجع للشعور اللي كنت حاسة بيه في العمرة؟
مرحبًا بك أختي الكريمة، وأشكر لك ثقتك التي وضعتها فينا، وأسأل الله أن يفتح عليك وأن يتقبل عمرتك وتوبتك، وأن يجعلها بداية خير وبركة لك في الدنيا والآخرة، وبعد...
فإن هذا الشعور بالقلق من عدم قبول الأعمال الصالحة -ومنها العمرة- هو وجهان لعملة واحدة: وجه قد يكون دليلًا على صدق الإيمان، ووجه آخر قد يكون وسوسة شيطانية.
وجهان لعملة واحدة
الوجه الأول: دليل صدق وإخلاص
إنَّ الخوف من عدم قبول الطاعة هو من صفات الصالحين والمتقين. إنهم لا يثقون بعملهم، ولا يعتمدون عليه؛ بل يعتمدون على رحمة الله وفضله.
لقد وصف الله حال هؤلاء في القرآن الكريم بقوله: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ﴾ [المؤمنون: 60]. وسألت عائشة –رضي الله عنها- رسولَ اللهِ ﷺ عن هذه الآيةِ، فقال: أهم الذين يَشرَبونَ الخَمرَ ويَسرِقونَ؟ فقال ﷺ: «لا يا بِنتَ الصِّديقِ، ولكِنَّهم الذين يصومون ويُصَلُّونَ ويتصَدَّقون وهم يخافون ألَّا تُقبَلَ منهم، أولئك الذين يسارِعونَ في الخيراتِ وهم لها سابِقونَ» [رواه الترمذي]. فهذا هو الخوف الذي يُولِّد الحرص على الإتقان والإخلاص.
الوجه الثاني: وسوسة شيطانية
من جهة أخرى، قد يكون هذا القلق وسيلةً من وسائل الشيطان ليُفسد عليك طاعتك ويُحبطك. فالشيطان لا يهدأ له بال حتى يُبعدك عن العبادة، فإن لم يستطع أن يمنعك منها، سعى ليُفسد عليك لذتها وحلاوتها، ويُحوِّلهما إلى مرارة وشَك، ويُقنعك بأن عملك لن يُقبل، فيُصيبك بالإحباط واليأس، وبالتالي تُصبح العبادة عليك ثقيلة، فتتركينها أو تُقلِّلين منها. وهذا هو ما يميز وسوسة الشيطان: أنها تُورِث اليأس، وتُذهب الأمل، وتُفسد عليك حلاوة الإيمان.
إن الشيطان لا يهاجم الإنسان في حال معصيته، بل يهاجمه في حال طاعته، ليشعره باليأس ويُقنعه بأنه لا يستحق رحمة الله. فهل تتخيلين أن الشيطان سيدعك في سلام بعد أن أعلنتِ توبتك بقلب خاشع في أقدس بقعة على وجه الأرض؟ لا والله، إن الشيطان يجتهد ليزرع الشك في قلبك ويُشوه جمال تلك اللحظات الإيمانية.
أحسني الظن بالله
إنَّ الله -جلّ وعلا- قد فتح لك باب التوبة، وأمرك بالعبادة، ووعدك بالقبول، وسوء الظن بالله هو القنوط من رحمته، واليأس من فضله. يقول الله -سبحانه- في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي» [رواه البخاري]. فكيف تظنين به ظنًّا سيئًا وهو الذي بيده مقاليد الأمور؟
أختي الكريمة، لقد ذهبتِ إلى بيت الله، ووقفت أمامه بقلب منكسر، واعترفت بتقصيرك، وطلبت منه المغفرة. فكيف تظنين أن الله سيردَّك خائبة؟
إن الله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: «يَا ابْنَ آدَمَ، إِنَّك مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَك عَلَى مَا كانَ فِيك وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَك، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّك لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِك بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» [أخرجه الترمذي].
إن الله لا يبالي بكمية الذنوب التي أتيتِ بها، فذنوبك مهما عظمت هي صغيرة في بحر رحمة الله التي وسعت كل شيء. والله عز وجل يقول: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
كيف تتخلصين من هذه الوساوس؟
لكي تُعيد لقلبك اطمئنانه، عليكِ أن تُحوِّلي هذا القلق إلى حالة إيجابية مُحفِّزة، وذلك عن طريق:
1- اجمعي بين الخوف والرجاء: اجعلي خوفك من عدم القبول دافعًا لك للإخلاص، واجعلي رجاءك في رحمة الله سببًا لعدم اليأس.
2- استحضري صفات الله: تذكَّري أنَّك تتعاملين مع ربٍّ كريمٍ، غفورٍ، ودود، يتقبل من عبده المخلص أقل القليل، ويثيبه عليه الثواب الجزيل؛ لا بما يكافئ قيمة عمل العبد؛ ولكن بما يكافئ جلال وجهه سبحانه، وعظيم سلطانه، وسعة ملكه، وكرمه ومنَّه.
3- لا تحقري عملك: لا تقللي من شأن عملك، فالله قد يتقبل منك عملًا صغيرًا خالصًا لوجهه، فيغفر لك به جميع ذنوبك. وتذكَّري –مثلًا- المرأة البغي التي أخبر عنها النبي ﷺ أنها سقت كلبًا كان يلهث من العطش، فغفر الله لها بذلك العمل الذي قد نراه صغيرًا، ولكن الله أعطى عليه الثواب العظيم. [الحديث رواه البخاري].
4- أكثِري من الاستغفار والدعاء: اجعلي الاستغفار بعد كل عمل صالح تعملينه دليلًا على اعترافك بالتقصير في جنب الله. اجعلي دعاءك اليومي هو أن يُثبتك الله ويُبعد عنك الوساوس. كان النبي ﷺ يُكثر من الدعاء: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك» [أخرجه الترمذي].
5- اجتهدي في تحري الإخلاص: ركِّزي على أن يكون عملك خالصًا لوجه الله، ثم سلِّمي أمرك لله ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، وثِقي بأن الله لا يضيع أجرك إن أحسنت العمل: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ [الكهف: 30]، وما كان الله أبدًا ليضيع إيمانك: ﴿ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 143].
6- استمري في الطاعات ولو بالقليل:
الشيطان يحاول أن يجعلك تتوقفين عن الطاعات، فلا تستسلمي! استمري في صلواتك، حافظي على أذكار الصباح والمساء، واقرئي شيئًا من القرآن كل يوم، ولو صفحة واحدة. يقول النبي ﷺ: «أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» [رواه مسلم].
7- تذكري اللحظات الروحانية:
استحضري في قلبك مشهد الكعبة، وصوت المؤذن، ورائحة الحرم، وشعورك وأنت تدعين الله في ذلك المكان الطاهر. هذه الذكريات قد تكون وقودك الروحي الذي يمنحك القوة.
8- ركِّزي على الحاضر والمستقبل:
اجعلي تركيزك على اللحظة الحالية وعلى المستقبل، لا على الماضي. فكري فيما يمكنك أن تفعليه اليوم لتكوني أفضل، وكيف يمكنك أن تزيدي من حسناتك.
9- صحبة الخير:
ابحثي عن صحبة صالحة تُعينك على طاعة الله، وتُذكرك بالعمرة وإيمانياتها وروحانياتها، وتُشجعك على الثبات. قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف: 28].
وختامًا أختي الفاضلة، إن ما تشعرين به من وساوس هو محاولة من الشيطان ليُفقدك ثقتك برحمة الله، فلا تستمعي إليه، وتذكري أن الله يحبُّ التوابين. توكلي عليه -سبحانه- وادفعي هذه الوساوس بالاستغفار. واستشعري أن الله قد محا ذنوبك وأنك الآن في مرحلة جديدة، فاملئيها بالطاعات وكوني على يقين بأن الله لن يضيع أجرك ما دمت أحسنت العمل. أسأل الله أن يبارك فيك وفي توبتك، وأن يُثبت قلبك على الحق حتى يلقاك.