Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : وساوس وشكوك
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 68
  • رقم الاستشارة : 2096
16/06/2025

السلام عليكم ورحمة الله

في بعض الأحيان أجد صعوبة في فهم بعض الأحكام الشرعية وخصوصًا المتعلقة بأحكام الميراث. يتسرب غلى ذهني شعور بأن هناك نوعًا من التمييز لبعض الأشخاص أو لجنس معين، ويصعب عليّ إيجاد الفارق المنطقي الواضح الذي يقوم عليه التمييز، خاصة في ظل المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة. على سبيل المثال، قد أفكر في حالات معينة تبدو فيها قسمة الميراث غير متناسبة مع الدور الاجتماعي أو الاقتصادي للمرأة في أسرتها، أو في حالات تختلف فيها الظروف المعيشية بين الورثة بشكل قد لا يراعي تفاصيلها الحكم العام.

يزداد هذا الشعور لديَّ عندما أستمع إلى كثرة الشبهات التي يثيرها المشككون على وسائل التواصل الاجتماعي حول هذه الأحكام، ويطرحون تساؤلات قوية عن مدى عدالتها أو ملاءمتها للعصر الحديث. أخشى أن تتسلل هذه الشبهات إلى قلبي وتضعف إيماني ويقيني.

فكيف يمكنني أن أتعامل مع هذه التساؤلات حول حكمة بعض أحكام الميراث وغيرها من الأحكام الشرعية؟

الإجابة 16/06/2025

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أخي الكريم، وأسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يشرح صدرك، وأن ينير بصيرتك، وأن يزيدك إيمانًا وثباتًا ويقينًا، وأن يحفظ قلبك من كل شبهة أو وسواس، وأن يجعلك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. آمين، وبعد...

 

فهذه التساؤلات التي تعتريك هي تساؤلات طبيعية، فالإنسان بطبيعته يميل إلى فهم الحكمة من وراء كل شيء، وخصوصًا ما يتعلق بدينه الذي هو أساس سعادته في الدنيا والآخرة.

 

ولكن دعني أهمس في أذنك بكلمة تفتح لك آفاقًا من الطمأنينة والراحة: إن حكمة الله تعالى مطلقة، وعلمَه سبحانه وتعالى لا يحيط به علم المخلوقين. نحن نرى جزءًا يسيرًا من الصورة الكلية، بينما الله يرى الكون كله، وما كان وما يكون وما سيكون.

 

تذكر دائمًا أن الله عز وجل هو الخالق البارئ المصور، وهو العليم الحكيم الخبير، وهو أرحم بنا من أمهاتنا. فكيف يعقل أن يشرع لنا ما فيه جور أو ظلم أو نقص؟ حاشاه سبحانه! إن كل حكم شرعي هو عين الحكمة، وعين العدل، وعين الرحمة، حتى وإن قصرت عقولنا عن إدراكها كلها في بعض الأحيان. هذه هي قمة الإيمان وجمال التسليم: أن نثق ثقة مطلقة في حكمة الخالق، وأن نعلم يقينًا أن ما شرعه لنا هو الخير المحض، ولو لم نفهم كل تفاصيله.

 

كيف نتعامل مع التساؤلات حول حكمة الأحكام الشرعية؟

 

1- التعلق بالله والثقة المطلقة في حكمته وعدله ورحمته:

 

إن أول وأهم خطوة هي أن تعمق صلتك بالله عز وجل، وأن ترسخ في قلبك الإيمان بأسمائه وصفاته الحسنى. عندما تستشعر أن الله هو «العدل» الذي لا يظلم مثقال ذرة، وهو «الحكيم» الذي يضع كل شيء في موضعه الصحيح، وهو «الرحمن الرحيم» الذي يتجلى لطفه في كل ما يشرعه لنا، حينئذ ستجد أن هذه الشبهات تتلاشى أمام عظمة هذه الحقائق.

 

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68]. كلما ازددت قربًا من الله ازداد يقينك، ورأيت الحكمة والجمال في كل أمره ونهيه.

 

2- فهم مقاصد الشريعة الإسلامية:

 

أخي الحبيب، إن الشريعة الإسلامية ليست مجرد أحكام متفرقة، بل هي منظومة متكاملة، لها مقاصد عظيمة تسعى لتحقيقها، وهي حفظ الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وإن أحكام الميراث، وغيرها من الأحكام، تصب في هذه المقاصد الجليلة.

 

الميراث في الإسلام ليس مجرد توزيع للثروة، بل هو نظام اجتماعي واقتصادي متكامل يهدف إلى مراعاة التكاليف والأعباء، وهذا بيت القصيد في تساؤلاتك حول الفارق بين الرجل والمرأة.

 

3- النظرة الشمولية لأحكام الإسلام:

 

إن الخطأ الفادح الذي يقع فيه المشككون هو عزل حكم واحد عن سياقه العام، والنظر إليه بمفرده. أحكام الإسلام كالبنيان المرصوص، يشد بعضها بعضًا. فعندما تجد أن نصيب الرجل ضعف نصيب المرأة في الميراث، قد يتبادر إلى ذهنك أنه تمييز، ولكن تعالى لننظر إلى الصورة الكاملة:

 

- القوامة والتكاليف: إن الإسلام جعل القوامة على الأسرة للرجل، ومعها تبعات مالية واجتماعية ضخمة. فالرجل هو الملزم بالإنفاق على زوجته وأولاده، وعلى والديه إن كانوا محتاجين، وعلى أقاربه المعوزين. وفي المقابل المرأة ليست ملزمة بالإنفاق على أحد، حتى لو كانت غنية. مالها كله لها، تصرفه كيف تشاء، أو تحتفظ به لنفسها، قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].

 

المهر: الرجل هو الذي يدفع المهر للمرأة عند الزواج، وهو حق خالص لها، لا يشاركها فيه أحد.

 

نفقة الزوجة: الرجل هو المسؤول عن نفقة زوجته بالكامل، من مأكل وملبس ومسكن وعلاج، حتى لو كانت غنية.

 

إنفاق الرجل على ذويه: الأب ملزم بالإنفاق على أولاده وبناته حتى زواج البنت وعمل الابن، والابن ملزم بالإنفاق على والديه إذا احتاجا.

 

إنفاق الرجل في سبيل الله والجهاد: الأعباء المالية الجهادية وغيرها من أوجه الإنفاق في سبيل الله هي غالبًا على عاتق الرجل.

 

إذا جمعت كل هذه التكاليف التي يتحملها الرجل، فستجد أن ما يأخذه من ضعف المرأة في الميراث لا يغطي جزءًا يسيرًا مما ينفقه ويتحمل مسؤولياته المالية تجاه أسرته والمجتمع. والمرأة، بالمقابل، مالها الذي تكتسبه أو ترثه، كله خالص لها، لا يطالبها أحد بالإنفاق منه على نفسها أو على أسرتها.

 

فهل بعد هذا يقال إن هناك تمييزًا أو ظلمًا للمرأة؟ كلا والله، بل هو عين العدل، وعين الرحمة، وعين الحكمة. إنها منظومة متكاملة تضمن للمرأة الأمان المالي، وتخفف عنها أعباء الحياة، وتسمح لها بالتركيز على أدوارها العظيمة في بناء الأسرة وتربية الأجيال.

 

4- الرد على الشبهات بالعلم الشرعي الصحيح:

 

أخي العزيز، لا تدع الشبهات تترسخ في ذهنك دون أن تبحث عن جوابها. والعلم الشرعي هو حصنك المنيع.

 

- ابحث عن المصادر الموثوقة: عندما تواجه شبهة، لا تستسلم لها. ابحث عن العلماء الربانيين، والمشايخ الموثوقين، والمراكز العلمية المعتبرة التي ترد على هذه الشبهات بالحجة والبرهان.

 

- اقرأ كتب الفقه والمقاصد: تعمق في دراسة فقه الميراث، وافهم أبعاده ومقاصده، ستجد أن المسألة ليست بتلك البساطة التي يصورها المشككون. هناك تفاصيل كثيرة في أحكام الميراث لمراعاة الظروف المختلفة، وليست قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» هي القاعدة الوحيدة. هناك حالات ترث فيها الأنثى أكثر من الذكر، أو ترث مثله.

 

- لا تلتفت إلى كل ما يقال في وسائل التواصل الاجتماعي: مع الأسف، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي مرتعًا لكل من هب ودب ليلقي شبهاته دون علم أو دليل. فلا تجعل قلبك وعقلك مستوعبًا لكل هذه السموم. كن انتقائيًّا فيما تشاهد وتقرأ.

 

5- الإيمان بالغيب والتسليم لله:

 

يا بني، إن الإيمان ليس مجرد إدراك عقلي لكل شيء. هناك جوانب في ديننا هي من الغيب الذي لا يدركه العقل البشري المحدود، أو قد لا يدرك حكمته الكاملة. هنا يأتي دور التسليم والإيمان بأن الله أعلم وأحكم. فعندما لا تجد جوابًا شافيًا لبعض التساؤلات، سلِّم الأمر لله، وثِق أن هناك حكمة عظيمة قد لا تدركها الآن، ولكنها ستتجلى لك يومًا ما، أو ستكشفها لك الحياة بتجاربها.

 

6- الدعاء والالتجاء إلى الله:

 

لا تستهن بقوة الدعاء. عندما تتسلل إليك الشبهات، ارفع يديك إلى السماء، واسأل الله الثبات والهداية، وأن يزيل عن قلبك كل وساوس الشيطان. إن الدعاء هو سلاح المؤمن، به تتبدد الظلمات، وتنجلي الحقائق.

 

وختامًا أخي الفاضل، لا تيأس أبدًا، ولا تدع الشبهات تقتحم حصن إيمانك. وتذكر أن الشيطان حريص على إفساد قلبك وعقلك، وأن الشبهات هي من أسلحته. فكن يقظًا، ومتسلحًا بالعلم والإيمان والدعاء.

 

إن جمال الإسلام يكمن في كماله، وفي كونه صالحًا لكل زمان ومكان. أحكامه ليست مقصورة على عصر دون عصر؛ بل هي أحكام خالدة، تحمل في طياتها الحلول لكل مشكلات الحياة، وتضمن السعادة للبشرية كلها.

 

أسأل الله العلي القدير أن يبارك فيك، وأن يحفظك، وأن يزيدك بصيرة ونورًا ويقينًا، وأن يجعلك من حملة راية الحق، الهادين المهديين. مع خالص دعواتنا وحبنا لك.

الرابط المختصر :