الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : المراهقون
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
28 - رقم الاستشارة : 2962
14/10/2025
أنا الأخ الأكبر لثلاث فتيات يتيمات، وقد كنت لهن بمثابة الأب منذ وفاة والدينا، أحاول قدر استطاعتي أن أملأ حياتهن بالحنان والرعاية والاطمئنان.
أصغر أخواتي تبلغ من العمر خمس عشرة سنة، وكانت دائمًا هادئة وملتزمة بدروسها، قريبة مني ومن شقيقاتها. لكن منذ عدة أشهر بدأت ألاحظ عليها شيئًا غريبًا يقلقني بشدة؛ فعندما نناديها أحيانًا وهي شاردة الذهن لا تستجيب، وعندما نقترب منها ونلمس كتفها برفق تنتفض فجأة وتقوم من مكانها كأنها فزعت من حلم!
الموقف نفسه يتكرر إن كانت نائمة أو مستيقظة أو منهمكة في المذاكرة أو حتى الجلوس بيننا. وكأنها تعيش حالة من التوتر الداخلي أو الخوف الدفين.
حاولت سؤالها برفق إن كان أحد ضايقها أو أخافها، لكنها تنفي وتقول إنها بخير، وتبتسم ابتسامة مصطنعة وكأنها تخفي شيئًا لا تريد البوح به.
بصراحة، أنا قلق جدًا عليها، وأخشى أن تكون تمرّ بتجربة نفسية أو صدمة لا نعلمها، خصوصًا أنها فقدت والديها وهي صغيرة، وأنا أعتبرها كابنتي قبل أن تكون أختي.
لا أعرف كيف أتعامل مع هذا الأمر، ولا كيف أصل إلى السبب الحقيقي وراء هذه الانتفاضات وردات الفعل الغريبة، فهل الأمر نفسي أم عضوي؟ وكيف أساعدها دون أن أسبب لها خوفًا أو إحراجًا؟
أخي الكريم،
أول ما أود أن أحييك عليه هو مشاعرك النبيلة ومسؤوليتك الأبوية تجاه أخواتك، ولا سيّما الأصغر بينهن، التي تشعر نحوها بعاطفة الأب الحنون لا مجرّد الأخ، وهذا في حد ذاته عامل حماية نفسي (Protective Factor) يقيها من كثير من المشكلات الوجدانية الناتجة عن اليُتم وفقدان الأبوين.
فرط اليقظة
ما تصفه من انتفاضة مفاجئة أو فزع عند اللمس أو النداء، يُعرف في علم النفس التربوي والأسري بأنه استجابة فسيولوجية ناتجة عن حالة من فرط اليقظة (Hyperarousal)، وهي إحدى صور الاضطرابات الانفعالية (Emotional Dysregulation) التي تحدث عادةً عندما يمرّ الفرد بتجربة خوفٍ أو صدمةٍ سابقة لم تُعالج نفسيًّا، أو حين يعيش في بيئة تثير داخله إحساسًا خفيًا بعدم الأمان.
السبب العضوي والنفسي
وهنا نحتاج إلى التفريق بدقة بين أمرين:
1- السبب العضوي (Physiological Cause):
كأن تكون البنت تعاني من ضعف في الجهاز العصبي، أو من اضطراب في النوم أو نقص في بعض الفيتامينات (مثل فيتامين B أو المغنيسيوم)؛ ما يجعل استجابتها الحسية مفرطة.
2- السبب النفسي(Psychological Cause) :
وهو الأرجح في حالتها، خاصةً إذا كانت طبيعتها انطوائية تميل إلى الكتمان؛ لأن هذه الانتفاضات كثيرًا ما تكون انعكاسًا لما يسمى في علم النفس بـ "الاستجابة الشرطية للصدمة" (Conditioned Trauma Response)؛ أي أن الجسد يحتفظ بأثر الخوف حتى بعد زوال مصدره.
خطوات متانية حانية
* ولذلك، أنصحك بالخطوات التالية بتأنٍّ وحنانٍ:
1- تجنّب المفاجأة واللمس المفاجئ..
لا تُنادِها أو تلمسها فجأة، بل نادِها باسمها بصوتٍ هادئٍ ومن مسافة مناسبة قبل الاقتراب منها، حتى لا تستثار الاستجابة الدفاعية اللاشعورية.
2- تهيئة بيئة الأمان النفسي (Psychological Safety)
احرص على أن تشعر دائمًا بأن البيت مكان آمن، وأنها محاطة بالحب لا بالمراقبة أو القلق؛ فالشعور بالأمان هو المفتاح الأول للعلاج. قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، فالسكينة التي يُلقيها الله في القلب هي أول دواءٍ لأي اضطراب داخلي.
3- افتح لها باب الحديث غير المباشر
لا تسألها مباشرةً عن سبب خوفها، بل اقترب منها من خلال أنشطة يومية محببة -كالمذاكرة أو إعداد الطعام أو نزهة قصيرة- ثم تحدث معها بشكل عفوي عمن "يخافون أحيانًا بدون سبب واضح"، فربما تفتح لك قلبها حين تشعر بالأمان العاطفي (Emotional Safety).
4- احتمالية الصدمة الصامتة (Silent Trauma)
قد تكون تعرضت لتجربة أو موقف مخيف (ولو بسيطًا في نظرنا) ولم تستطع التعبير عنه، فبقي الأثر الانفعالي المكبوت (Repressed Emotional Memory) يظهر على هيئة رد فعل جسدي عند المفاجأة أو اللمس.
5- الاستعانة بأخصائية نفسية للأطفال والمراهقين
وأنا أرى أن يُعرض الأمر على مختص نفسي تربوي (Child & Adolescent Psychologist)، لإجراء تقييم مبدئي شامل، لأن بعض الحالات تستفيد كثيرًا من جلسات الدعم النفسي الفردي (Individual Counseling Sessions) التي تساعد على تصحيح الارتباطات الانفعالية بالخوف، واستعادة الثقة بالجسد والنفس والعالم المحيط.
6- العلاج الروحي المكمّل
اجعل للبيت طابعًا روحانيًّا لطيفًا؛ فصوت القرآن الكريم يهدئ الاضطرابات العصبية ويُحدث ما نسميه تنشيط الجهاز العصبي اللا إرادي المتوازن.
وأوصيك بأن تُشركها في أعمال خفيفة تطوعية أو هوايات تنفّس فيها طاقتها المكبوتة، كالرسم أو الكتابة أو المشي.
وأخيرًا، عليك أن تتفهم بأنه قد تمرّ الفتاة في هذه السن بما نسميه في علم النفس مرحلة التحول الوجداني (Emotional Transition Stage) بين الطفولة والمراهقة، وهي مرحلة حساسة تتضارب فيها المشاعر، ويصبح فيها الجسد أكثر استجابة للتوتر النفسي. لذا، كن لها الأب الهادئ، والسند الصبور، والحاضن الذي يخفف لا الذي يستجوب.
* همسة أخيرة:
امنح لأختك أمان زمانها، لا قلق خوفك عليها من جيلك الذي سبقها. وكن لها وطنًا من طمأنينة، فهي -وإن كبرت- ما زالت طفلتك تبحث فيك عن السكينة المفقودة.
روابط ذات صلة:
الفزع الليلي لابني يؤرقنا.. ما الحل؟!