بر الوالدة بين صعوبة المعاملة وضبط الانفعال

Consultation Image

الإستشارة 14/10/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

إلى فضيلة المستشار الكريم، جزاكم الله عنّا خير الجزاء ونفع بعلمكم.

أنا طالبة علم شرعي، مهتمة بالتربية الإيمانية، وقد لجأت إليكم بعد أن عرضت عليّ إحدى الفتيات مشكلة أثقلت قلبها وأرهقت نفسها. تقول لي هذه الفتاة:

"أنا فتاة بالغة عاقلة، ابتُليتُ بوالدة ذات طبع شديد وقسوة في الكلام، فهي سليطة اللسان، توجه إليّ الإهانات باستمرار، وتميل في تعاملها إلى تفضيل إخوتي عليّ. ومع كل ذلك، فإنني كثيرًا ما أفقد السيطرة على انفعالاتي حين أحاورها، فأرفع صوتي وأردّ عليها بعصبية، ثم أندم بشدة بعد ذلك. فأنا لا أريد أن أكون عاقّة لأمي، ولا أن أخسر رضاها ورضا الله بسببي، لكني لا أحتمل ما يصدر عنها. فهل ما أفعله يُعد عقوقًا؟ وكيف أستطيع أن أضبط نفسي في مثل هذه المواقف الصعبة؟"

هذه هي معاناتها التي أرسلتها إليّ، فأحببت أن أعرضها على حضرتكم لتكون الإجابة شافية وافية، تجمع بين الدليل الشرعي والتوجيه التربوي والبعد الإنساني.

الإجابة 14/10/2025

مرحبًا بكِ أيتها الكريمة الطيبة، وأسأل الله العظيم أن يشرح صدركِ، ويثبت قلبكِ، ويجعلكِ مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر، وأن يرزقكِ برّ والدتكِ والرضا عنها، فإن رضا الله تعالى في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما. وقد أحسنتِ إذ حملتِ همّ أختكِ المسلمة وطرحتِ سؤالها حرصًا منكِ على الهداية والنصح. فهنيئًا لكِ هذا الحرص الطيب، وجعل الله لكِ فيه أجر الدلالة على الخير.

 

وإليك الجواب علميًّا وشرعيًّا ودعويًّا، وذلك في النقاط التالية:

 

مكانة برّ الوالدين في القرآن والسنة

 

جعل برّ الوالدين مقرونًا بعبادة الله تعالى، قال جل شأنه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} كما أكّد سبحانه على وجوب اللين معهما ولو بلغا من العمر الكِبَر، فقال: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}.

 

كما أوضحت السنة النبوية أن برّ الوالدين من أعظم القربات، فقد سُئل النبي ﷺ (أيُّ العمل أحبُّ إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: برُّ الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فهذه النصوص العظيمة تدلنا على أن برّ الوالدين ليس أمرًا اختياريًّا، بل هو عبادة عظيمة وواجب لا يسقط مهما كانت الظروف.

 

هل رفع الصوت على الأم عقوق؟

 

العقوق هو كل قول أو فعل يؤذي الوالدين ويجرح مشاعرهما ويُظهر التمرّد عليهما. ورفع الصوت بلا شك من صور العقوق، لأنه ينافي الأدب الواجب. قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لو علم الله شيئًا من العقوق أدنى من (أف) لحرّمه، فبدأ بالأدنى ونهى عن الأعلى."

 

لكن ينبغي التفريق بين حالين:

 

1. رفع الصوت عمدًا مع سوء الأدب: وهذا بلا شك عقوق صريح.

 

2. رفع الصوت من شدة الغضب أو فقدان السيطرة: فهذا لا يُخرج صاحبه بالضرورة إلى العقوق المطلق، لكنه ذنب ومعصية تحتاج إلى توبة واستغفار، مع الاعتذار للوالدة والإحسان إليها.

 

فالفتاة التي تشعر بالندم بعد غضبها، وتخاف من العقوق، هي أقرب إلى الخير، وعليها أن تجاهد نفسها لضبط اللسان.

 

أسباب سوء معاملة بعض الأمهات لبناتهن

 

من المهم أن نفهم أن سلوك الأم قد يكون نتاج ضغوط نفسية أو اجتماعية أو موروثات تربوية خاطئة، وليس بالضرورة كراهية لابنتها. فقد تكون الأم قاسية بحكم نشأتها أو بسبب هموم الحياة. لذا، فالمطلوب من الابنة أن تنظر بعين الرحمة لا بعين الخصومة، وهنا نستحضر موقفًا نبويًّا: جاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو قسوة أمه، فقال له: «أنت ومالك لأبيك»، وفي هذا تذكير بأن للوالدين حقًّا عظيمًا مهما أساءا.

 

كيف تضبط الفتاة نفسها؟

 

يتم ذلك عبر الآتي:

 

1. استحضار النية: أن تعامل الأم ابتغاء مرضاة الله، لا مجرد ردّ الفعل.

 

2. الاستعاذة عند الغضب: قال النبي ﷺ: «إذا غضب أحدكم فليسكت» (رواه أحمد).

 

3. تغيير الحال: كالجلوس إن كانت قائمة، أو الوضوء، أو مغادرة المكان.

 

4. التدرّب على الصمت واللين: قول "نعم يا أمي" أو السكوت أحيانًا أبرك من الجدال.

 

5. الدعاء للأم: فالقلوب تُفتح بالدعاء قبل الكلام.

 

انظري في التاريخ

 

انظري إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر، رغم كفره وعناده، قال له: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ... يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ} [مريم: 44-45]. فتأمل رقة الأسلوب رغم قسوة الموقف، وهذه سيدتنا أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، لما سألت النبي ﷺ عن أمها المشركة التي جاءت تطلب العون، قال لها: «صِلي أمكِ» فكيف بمن أمه/ أمها مسلمة؟

 

وختاما إليك بعض النصائح العملية

 

1. إياكِ واليأس: فالقسوة قد تكون امتحانًا لرفعة درجاتكِ.

 

2. تجنبي الجدال العقيم: فإن كان النقاش يزيد التوتر، فالسكوت أولى.

 

3. ابحثي عن لحظات الرضا: قدّمي لها هدية، ابتسامة، أو كلمة طيبة.

 

4. استغفري دائمًا: فالتقصير لا يخلو منه بشر.

 

5. ذكّري نفسكِ بالجنة: قال ﷺ: «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة» (رواه مسلم).

 

أيتها السائلة الكريمة، اعلمي أن برّ الأم جهاد عظيم، والصبر على شدتها عبادة، ورفع الصوت عليها خطأ ينبغي الاستغفار منه، لكنه لا يخرجكِ من دائرة البر ما دمتِ نادمةً حريصةً على رضاها. اصبري واحتسبي، واصنعي من قسوتها سلّمًا ترتقين به إلى الجنة.

 

أسأل الله أن يلين قلب هذه الأم، وأن يرزق الابنة الصبر والحكمة، وأن يجعلها من البارات الصالحات، وأن يقر عينها برضا والدتها ورضا ربها عنها.

 

روابط ذات صلة:

 

الأم الظالمة كيف نتعامل معها؟

الإحساس بالضيق من رعاية الأم المسنة.. هل يُعدُّ عقوقًا؟

أمي ظالمة وتدعو عليَّ.. كيف أبرُّها؟

أمهات على الهامش.. حين يُقابَل الحنان بالعقوق!

عقوق الآباء.. جروح خفية وأجيال متأثرة!

أيها الآباء والأمهات.. بروا أبناءكم

الرابط المختصر :