الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الابتلاءات والمصائب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
94 - رقم الاستشارة : 2522
28/08/2025
"فضيلة الشيخ/ العالم الجليل، حفظه الله، أرجو من حضرتكم التكرم بالإجابة على استشارتي الشرعية، والتي أعبّر فيها عن حالة من الحزن والأسى الشديدين نتيجة فقدان عدد من أولادي – الذين كانوا كالملائكة في طهارتهم وصدقهم وإيمانهم العميق بقضاء الله وقدره، ومتربين على مبادئ الدين الحنيف والأخلاق الفاضلة. لطالما كان حلمي أن يكبروا ويكونوا عائلة كبيرة كثيرة العدد، طمعًا في البركة وامتداد هذا البيت المعروف بأدبه وأخلاقه، ولكنّ قضاء الله تعالى ومشيئته كانا فوق كل شيء، ففقدت منهم من فقدت.
أمام هذه المصيبة الجلل، تأتيني عبارات من بعض الناس تزيد وجعي حزنًا، مثل قولهم: "اكتفي، هذا يكفيك من أجل صحتك"، أو يتعجبون من حجم عائلتي الكبيرة في سنّي هذه، وكأن الأمر فيه نظر أو اعتراض على قضاء الله ورزقه.
فأريد من فضيلتكم التوجيه الشرعي في هذه المسائل: كيف أرد على مثل هذه التعليقات التي قد تحمل في طياتها شيئًا من الحسد أو عدم الفهم لقدرة الله ورزقه الواسع؟
وما هو التفسير الشرعي لقول الله تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) في سياق نعمة الأولاد والصبر على فقدانهم؟
كيف أجمع بين الصبر على فقدان أحبائي وشكر الله تعالى على النعمة السابقة بوجودهم وعلى ما تبقى لي من أولاد؟
هل السعي لإكثار النسل والعائلة الكبيرة أمرٌ محمود شرعًا في ظل هذه الظروف؟
وما كلمات المواساة الشرعية التي يمكن أن أذكر بها نفسي وأرد بها على الآخرين؟
جزاكم الله خير الجزاء ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، وأشكرك على ثقتك بنا واختيارك لنا لنسير معك في درب الصبر والاحتساب. أسأل الله أن يربط على قلبك، ويجبر كسرك، وأن يجعل كل ما لاقيت في ميزان حسناتك، وأن يجمعك بأحبابك الذين سبقوك إلى جنات الخلد، وأن يبارك لك فيما تبقى لك من أبناء، وأن يقر عينك بصلاحهم وبرهم، وبعد...
أخي الكريم، إن شعورك بالحزن أمرٌ طبيعي وإنساني، فلقد حزن النبي يعقوب -عليه السلام- على فراق يوسف حتى ابيضَّت عيناه من الحزن، وحزن النبي محمد ﷺ على فقدان ابنه إبراهيم، وقال: «إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» [رواه البخاري].
كيف ترد على تعليقات الناس؟
يا سيدي الفاضل، إن كلمات الناس التي تسمعها –لا شك- قد تكون سهامًا تُصيب القلب، ولكنّها غالبًا ما تُطلق من جهل أو حسن نية ملتبسة، وليس بالضرورة من سوء قصد. فبعضهم يرى من منظور مادي محدود، وبعضهم قد يشعر بالحسد، وبعضهم لا يجد الكلمات المناسبة، فينطق بمثل ما قلت.
فإذا سمعت منهم تلك التعليقات، فيمكنك أن ترد بردود من قبيل:
- «هذا قضاء الله وقدره، وأنا راضٍ بما قسم الله لي، والأولاد رزق من الله يهبه لمن يشاء، ويأخذه متى يشاء».
- «إنّ العوض من الله خير، وأنا أرجو ما عند الله من الأجر والثواب على صبري».
- «كل شيء بيد الله، وهو الذي يُقدِّر الأسباب والنتائج، ولا نملك إلا أن نتوكل عليه ونرضى بقضائه».
أما الذين ترى أنهم لا يستوعبون هذه الردود، فأفضل رد عليهم هو الصمت مع ابتسامة، والدعاء لهم بالهداية.
واعلم يا أخي أن «العين حق» كما أخبر النبي ﷺ [رواه مسلم]. فحصِّن نفسك وأهلك بالقرآن والأذكار. واعلم أن الحاسد لا يضر إلا بإذن الله، وأن التوكل على الله وطاعته هو خير حماية. واحتسب عند الله ما تلاقيه منهم.
معنى ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾
هذه الآية الكريمة ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7] هي وعد إلهي عظيم يتجسد في حياتك بشكلٍ واضح.
فشكرك في سياق فقدان الأولاد، شكر على نعمة وجودهم سابقًا، وشكر على كل لحظة فرحٍ وسعادة قضيتها معهم، وشكر على اختيارهم ليشفعوا لك يوم القيامة. يقول النبي ﷺ: «ما من مسلمَين يموت لهما ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهم» [رواه البخاري].
وشكرك لربك على البلاء؛ لأنّك تُدرك أن البلاء يطهرك من الذنوب، ويقربك من الله، ويرفع درجاتك. يقول النبي ﷺ: «ما يصيب المؤمن من وصب، ولا نصب، ولا سقم، ولا حزن، حتى الهمّ يهمّه، إلا كفّر الله به من سيئاته» [رواه مسلم].
وشكرك على بقية الأولاد اعتراف بأن وجودهم نعمة يجب أن تقابل بالشكر، فكم من الناس من هو محروم من هذه النعمة، ويتمنى طفلًا واحدًا.
إنّ الزيادة في هذه الآية قد لا تكون بالضرورة في عدد الأولاد، بل قد تكون في:
- البركة فيمن تبقى: صلاحهم وبرهم وزيادة تقواهم.
- السكينة في قلبك: الشعور بالطمأنينة والرضا.
- القرب من الله: زيادة في الإيمان واليقين، وتوسعة في الرزق، وعوض من الله لم تكن تتوقعه.
كيف تجمع بين الصبر والشكر؟
يا أخي، إن الصبر والشكر وجهان لعملة واحدة، وهما يتلازمان في قلب المؤمن الصادق.
إن الصبر هو هو حبس النفس عن الجزع واللسان عن الشكوى، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب.
والشكر هو الاعتراف بالنعمة، والامتنان لله بها وعليها، عملًا بالقلب واللسان والجوارح، قال تعالى، حاثًّا آل داود –عليه السلام- على الشكر بالعمل: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: 13].
والجمع بينهما يكون بالحال واللسان والقلب، فتتذكر نعم الله عليك، وتدرك أن كل ما وهبك الله إياه من الأولاد هو رزق مؤقت، وأن الله هو صاحب الملك، يأخذ ما يشاء ويعطي ما يشاء. إن المؤمن يشكر على النعم ويصبر على النقم، ويأخذ الأجر في كل منهما.
وضع نُصب عينيك دائمًا قول الله عز وجل: ﴿ولَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ والْجُوعِ ونَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ والأَنفُسِ والثَّمَرَاتِ وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وإنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ ورَحْمَةٌ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155- 157].
وقد ابتلى الله رجلًا مثلك بفقدان أبنائه واحدًا تلو الآخر، فلم يجزع ولم يسخط، بل رضي وشكر، فلما سأله الناس عن ذلك، قال: «الحمد لله، فقد منحني الله نعمة الأولاد، فتمتعت بهم سنوات، ثم استرد أمانته. أفأجزع على ما استرد، ولا أشكر على ما وهب؟!».
هل السعي لإكثار النسل أمر محمود؟
يا أخي الفاضل، إنّ إكثار النسل في الإسلام أمرٌ محمود ومطلوب شرعًا. يقول النبي ﷺ: «تزوّجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة» [رواه أبو داود]. وإن من الأهداف الشرعية للإنجاب:
- إعمار الأرض: فالأولاد هم بناة المستقبل وحملة رسالة الدين.
- القوة والبركة: فكلما زادت الأسرة زادت قوتها وتماسكها، ووجد الأبناء سندًا بعضهم لبعض.
- الأجر المستمر: فالأبناء الصالحون هم من الصدقات الجارية بعد الوفاة، فدعاؤهم وبرهم يصل إلى والديهم بعد موتهما.
وفي ظل ظروفك، فقدان الأبناء لا يعني أن تتوقف عن السعي للإنجاب؛ بل بالعكس، قد يكون هذا سبباً لزيادة رغبتك في ذلك. فكل ابن جديد هو أمل جديد، وبركة جديدة، وسبب لزيادة الأجر. فلا تُبالِ بمن يقول لك: "اكتفِ"، فإن الرزق بيد الله، والأولاد عطاءٌ منه سبحانه؛ مع الوضع في الاعتبار الظروف الأخرى، ومدى قدرتك وأمهم على تحمل المسؤولية في تنشئتهم وتربيتهم.
كلمات المواساة الشرعية
- كلماتٌ لنفسك:
«إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها».
«الحمد لله على كل حال، اللهم لا اعتراض على حكمك».
«اللهم إنهم ضيوفك، أكرمتهم عندك في جنات النعيم».
«هؤلاء أحبابي، سيشفعون لي عند ربي».
- كلمات للناس:
«الحمد لله على قضاء الله وقدره، والله يعوضني خيرًا».
«الأولاد زينة الحياة الدنيا، وأمانةٌ من الله، وقد استرد الله أمانته».
«أسأل الله أن يرزقني الصبر ويجمعني بهم في الجنة».
وختامًا أخي الحبيب، إنك في موضع حسد عظيم، ليس على ما فقدت، بل على إيمانك ويقينك الذي يجعلك ترى في المصيبة منحة لا محنة. إن صبرك هذا سيكتب لك عند الله أجرًا عظيمًا، وستجد ثمرته في الدنيا بركةً فيمن تبقى، وفي الآخرة لقاءً بأحبابك في جنة عرضها السماوات والأرض. استمر في طريقك، واثبت على إيمانك، ولا تلتفت لكلام الناس، فالله معك، ويدبر أمرك، وهو أعلم بما في قلبك.
أسأل الله أن يبارك لك في حياتك، ويعينك على تربية من تبقى من أولادك على البر والتقوى، وأن يرزقك سعادة لا تنضب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.