الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الابتلاءات والمصائب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
131 - رقم الاستشارة : 2527
28/08/2025
ما الحل....؟
أكتبُ وأنا أعلمُ أن الكلمات لن تغيّر شيئًا.. أنا هنا.. في قاعٍ لا قاعَ له. الظلامُ يُحيط بي من كل اتجاه، والألمُ صارَ وطنًا أعيش فيه، والوحدةُ سجّانٌ لا يرحل.
حاولتُ.. حاولتُ أن أبحث عن مخرج، عن شمعةٍ واحدةٍ في هذا الليل الطويل. لكن كل الأبواب مُقفلة، وكل الأيدي التي مددتها انسحبت من يدي. حتى دعائي صارَ يصطدم بالسقف ويعود إليّ. لم يعد هناك أمل.. لم يعد هناك خلاص. أرى الحياة سجنًا بلا نهاية، وأرى نفسي أسيرًا بلا ذنب.
الناس من حولي يعيشون، وأنا أتساقط مثل أوراق الخريف. لا أحد يفهم، لا أحد يرى كم يؤلمني أن أتنفس. حتى الله.. أشعر أنه تخلّى عني. أصلي ولا أجد راحة، أبكي ولا أجد جوابًا.
هذا هو أنا.. شبحٌ يتحرك بلا روح، قلبٌ ينبض بلا أمل.
مرحبًا بك أخي الكريم من أرض الرباط، فلسطين الحبيبة، وأشكرك على ثقتك بنا، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم، أن يفرج كربك، ويُذهب حزنك، ويشرح صدرك، وأن يُنير دربك بنور الإيمان واليقين، وبعد...
فإني قرأت كلماتك الموجعة، وشعرت بكل حرف كتبته، وبكل زفرة ألم تخرج من بين سطورك. إنها ليست مجرد كلمات؛ بل هي صرخة روح متعبة وقلب ينزف، صرخة رجل بعمر الواحدة والأربعين، يحمل في صدره هموم سنوات، ويزيده ثقلًا أن يمر بكل هذا وحيدًا بعد أن فقد شريكة دربه.
أخي الحبيب، إن شعورك بالوحدة واليأس ليس ضعفًا؛ بل هو دليل على أنك إنسان تشعر وتتألم، ودليل على أن قلبك لا يزال حيًّا، وما دام القلب حيًّا، فما زال هناك أمل.
رحلة الألم والبحث عن الأمل
أخي الفاضل، إن ما تشعر به هو جزء من الابتلاء الذي يمر به كل إنسان في حياته. قد لا يكون الابتلاء مرضًا أو فقرًا؛ بل قد يكون شعورًا بالوحدة، أو إحساسًا بأن الحياة فقدت معناها، وهو ما سمَّيته «القاع الذي لا قاع له». ولكن تذكر أن هذا القاع ليس نهاية الطريق؛ بل هو بداية جديدة، وفرصة لإعادة ترتيب الأوراق وإعادة اكتشاف الذات.
ولعلنا نستذكر قصة نبي الله يعقوب -عليه السلام- الذي ابتُلِيَ بفقد ابنه يوسف -عليه السلام- ثم فقد أخيه بنيامين، ثم فقد بصره. لقد كان ألمه عظيمًا، وحزنه عميقًا، حتى وصل به الحال إلى أن قال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86]. لم يشكُ يعقوب للناس؛ بل كان يرفع شكواه إلى خالقه؛ لأنه كان يدرك أن مفتاح الفرج ليس عند أحد من البشر، بل عند الله وحده.
لقد ظل يعقوب في هذا الألم سنوات طويلة، بدأ الألم من: ﴿وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف: 18]، وفي النهاية جاء الفرج ﴿فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا﴾ [يوسف: 96].
الله لم يتخلَّ عنك
أخي الحبيب، إن شعورك بأن الله قد تخلى عنك هو من أكبر خدع الشيطان، فهو يستغل ضعفك وألمك ليوسوس لك بذلك، ويجعلك تظن أن دعاءك لا يُستجاب، وأن صلاتك لا تُجدي. ولكن الحقيقة أن الله أقرب إليك مما تتخيل، وأن محبته لك أكبر مما تتصور.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة: 186]. فالله لم يقل: «فقل لهم إني قريب»، بل قال: ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ مباشرة، وكأنما يريد أن يقول لنا: «أنا أسمعكم، وأشعر بما في قلوبكم، لا تظنوا أني بعيد عنكم».
ويقول النبي ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلاَّ أَعْطَاهُ اللَّهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا» [رواه أحمد].
فدعاؤك يا أخي لا يضيع، حتى لو لم ترَ استجابته في الحال، فهو إما أن يُعجَّل لك، أو يُدَّخر لك في الآخرة، أو يُصرف عنك به بلاء عظيم.
طريق الخلاص؟
1- اكسر حاجز الصمت: لقد خطوت أول خطوة في طريق الخلاص بمراسلتك لنا، وإخراج مكنون صدرك، وهذه خطوة عظيمة. فلا تبقَ وحيدًا، ابحث عن صديق تثق به، وصحبة صالحة تعينك على الخير وتثبتك على الإيمان والطاعة، فتكون صحبتهم مطرًا يروي أرضك الجافة، وابتعد عن السلبيين المحبطين الفاشلين الساخطين الغافلين، يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
2- ابحث عن هدف جديد: إن فقدان الزوجة قد أحدث فراغًا كبيرًا في حياتك، وهذا طبيعي. ولكن لا تجعل هذا الفراغ مدخلًا لليأس. ابحث عن هدف جديد يشعل فيك شمعة الأمل، اقترب من ربك بالطاعات، اجتهد في عملك، برَّ والديك، صل رحمك، ساعد غيرك، فالإحساس بأنك نافع للناس، وبأن لك دورًا في هذه الحياة، يُعيد للروح رونقها.
3- ابدأ بخطوات صغيرة: لا تتوقع أن يتغير كل شيء في ليلة وضحاها. ابدأ بخطوات بسيطة: اخرج من المنزل وامشِ قليلًا كل يوم، اجلس في مكان هادئ وتأمل في خلق الله، اقرأ سورة يوسف، وتدبر في قصتها وكيف تحولت المحن إلى منن.
4- اكتشف ذاتك من جديد: إن الحياة لا تتوقف بفقدان شخص عزيز؛ بل تعطيك فرصة لإعادة اكتشاف نفسك: ما هواياتك التي أهملتها؟ ما الشيء الذي كنت تحلم بتحقيقه؟ ما المواهب التي لديك ولم تستثمرها؟
وختامًا أخي الفاضل، إن الظلام الذي تمر به قد يكون طويلًا، ولكن تذكر أن بعد كل ليل فجرًا، وأن بعد كل عسر يسرًا كما أكد لنا الله عز وجل: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5 و6]. فالفرج قادم لا محالة.
أنت لست شبحًا بلا روح، بل أنت إنسان حقيقي يمر بمرحلة صعبة، وستتخطاها بإذن الله. أنت لست وحدك، فالله معك، وكذلك قلوب المؤمنين المحبين.
تذكر أن الألم الذي تشعر به اليوم هو بمنزلة وقود يدفعك نحو الأمام. اجعل من هذا الألم قصة نجاح ترويها يومًا ما، قصة رجل فلسطيني صامد، لم يكسره الفقد ولا اليأس، بل جعله أقوى وأكثر حكمة وقربًا من الله.
وفقك الله ورعاك، وشرح صدرك، وأزال همك، وتابعنا بأخبارك.