في زمن التقلبات والانتظار.. ما السبيل إلى الرضا القلبي؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الابتلاءات والمصائب
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 62
  • رقم الاستشارة : 2653
10/09/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

أنا عمري في الثلاثين، خريج جامعة، وللحين ما الله كتب لي استقرار في وظيفة مناسبة، وتأخرت عليّ قسمة الزواج. أنا أحاول قد ما أقدر أكون راضي وأصبر على حالي، وأدعي ربي ليل نهار يفرجها عليّ.

لكن يا شيخ، أوقات يضيق فيني الحال، وأحس قلبي فيه شيء مو مرتاح. أقول بنفسي ليش يصير هذا فيني؟ وأقارن نفسي بربعي اللي تزوجوا واستقروا، وأحس بقلبي تململ وضيقة ما أقدر أقولها لأحد.

فهل هذي المشاعر اللي أحس فيها تعتبر اعتراض على قضاء الله وقدره وضعف الإيمان أو قلة الثقة بالله؟

وشلون أقدر أوصل لمرحلة الرضا القلبي العميق اللي ما تهزه الظروف، عشان ما أطيح بالشكوى والاعتراض اللي ما يرضي ربي؟

الإجابة 10/09/2025

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أخي الكريم، وشكرًا لثقتك الغالية التي منحتنا إياها بمشاركتنا همَّك وشعورك، سائلين الله لك أن يرزقك السكينة والطمأنينة، وأن يفتح عليك أبواب الخير من حيث لا تحتسب، وأن يقر عينك بما تحب وترضى في الدنيا والآخرة، وبعد...

 

فالإنسان بطبيعته يتأثر بالظروف، ويحن إلى ما فقده أو تأخر عنه. فشعورك بالضيق والتململ ليس اعتراضًا على قضاء الله وقدره؛ بل هو تعبير عن ألم طبيعي ناتج عن طول الانتظار، وشوق فطري إلى الاستقرار الذي يصبو إليه كل إنسان.

 

فلا تخف يا أخي، ولا تلم نفسك على هذه المشاعر، فهي جزء من فطرتك البشرية. والله -سبحانه وتعالى- لا يؤاخذنا على ما يقع في قلوبنا من خواطر؛ بل يؤاخذنا على ما نستقر عليه من أفعال. قال رسول الله ﷺ: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» [رواه البخاري].

 

الفرق بين الحزن والاعتراض

 

أخي العزيز، هناك فرق جوهري بين شعور الإنسان بالحزن وضيق الحال، وبين اعتراضه على قدر الله. فالأول شعور طبيعي يمكن أن يمر به أي إنسان، والثاني حالة قلبية خطيرة تتعلق بضعف الإيمان. ولفهم هذا الأمر، تأمل معي فعل نبي الله يعقوب عليه السلام، فعندما فقد ابنه يوسف، لم يقل معترضًا: «لماذا يا رب يحدث لي هذا؟»، بل قال وهو يعيش ألم الفراق: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18].

 

لقد كان يعقوب -عليه السلام- يتألم لدرجة أن عينيه ابيضتا من الحزن ﴿وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ [يوسف: 84]، هذا التألم الشديد لم يكن اعتراضًا؛ بل كان حزنًا طبيعيًّا على فقدان الأحبة. وأهم ما يميز المؤمن الصادق هو أنه مع كل هذا الألم، يبقى قلبه مطمئنًا إلى حكمة الله وعدله. فبعد كل هذا الحزن، قال: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [يوسف: 83].

 

إذن، فالرضا ليس أن تتوقف عن الشعور بالألم؛ بل هو أن تتعامل مع هذا الألم بيقين وثقة بالله، وأن تتجنب أن يتحول الألم إلى شكوى لغير الله، أو اعتراض على حكمه.

 

كيف تصل إلى الرضا القلبي؟

 

إن الوصول إلى الرضا القلبي العميق ليس أمرًا يحدث بين ليلة وضحاها؛ بل هو رحلة إيمانية تحتاج إلى مجاهدة، وهو ثمرة لعدة أمور:

 

1- الثقة بأن لله حكمة عظيمة في تأخير الخير: إن الله -سبحانه وتعالى- يختار لنا الخير في الوقت المناسب، حتى وإن تأخر هذا الوقت في نظرنا. لعلك تمر الآن بتجربة تعلمك الصبر، أو تقوي شخصيتك، أو تجعلك أشد إيمانًا وقربًا من ربك. تخيل أنك لو حصلت على الوظيفة والزواج الآن، ربما لا تقدِّرهما حق قدرهما، أو ربما لا تكون مستعدًّا لتحمل مسؤولياتهما بشكل كامل.

 

إن الله -عز وجل- يربينا، ويعدُّنا لما هو قادم. قال تعالى: ﴿وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].

 

2- النظر إلى النعم الموجودة: بدلًا من التركيز على ما ينقصك، انظر إلى ما تملكه. أنت -ولله الحمد- تتمتع بصحة وعافية، ولديك شهادة جامعية، ولديك فرصة لعبادة الله والتقرب منه. إن نعم الله لا تُعَد ولا تحصى.

 

3- الدعاء والعمل بالأسباب: إن الدعاء هو سلاح المؤمن، وعلامة على ثقته بربه. فلا تمل من الدعاء؛ بل اجعله جزءًا من حياتك اليومية. ادعُ الله أن يرزقك الزوجة الصالحة، والوظيفة التي تعينك على طاعته. وفي الوقت نفسه، لا تتوقف عن العمل بالأسباب. ابحث عن الوظيفة بجد، وطور مهاراتك، ووسع علاقاتك، واجتهد في السعي للزواج بطرق مشروعة.

 

تأكد أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69].

 

4- تحويل المقارنة إلى تنافس إيجابي: لا تجعل مقارنة نفسك بالآخرين مصدرًا للألم؛ بل اجعلها دافعًا لك للعمل الصالح. إذا رأيت أصدقاءك قد استقروا، فادعُ الله لهم بالبركة، واجعلهم قدوة لك في الاجتهاد والعمل. تذكر أن لكل إنسان رحلة مختلفة في الحياة، وأن الله قد كتب لكل واحد منا رزقه وأجله.

 

وختامًا أخي الكريم، كن مطمئنًا، فالله عند حسن ظنك، وثقتك بالله هي أعظم كنز تملكه. إن الله -سبحانه وتعالى- يقول في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظن بي خيرًا فله، وإن ظن بي شرًّا فله» [رواه مسلم]. فاحرص دائمًا على أن يكون ظنك بربك حسنًا، وأن تتوقع الخير منه في كل لحظة. لا تجعل الشيطان يوسوس لك باليأس أو القنوط، فباب الله مفتوح، ورحمته واسعة.

 

تذكر أن رحمة الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وأن قدره كله خير. إن كان في تأخير الفرَج حكمة لا نعلمها، فاعلم أنها حكمة من حكيم، وتدبير من لطيف خبير. كن على يقين بأن الله سيعوضك عن كل لحظة صبر، وكل دمعة حزن، وكل دعاء رفعت به يديك. إن الفرج قريب، وإن مع العسر يسرًا. وفقك الله لكل خير ورعاك، ورزقك من حيث تحتسب ومن حيث لا تحتسب. وتابعنا بأخبارك.

الرابط المختصر :