الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : فقهية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
37 - رقم الاستشارة : 875
03/02/2025
حين اندلعت الحرب في سوريا، لجأ كثير من السوريين إلى البحث عن فتاوى تبيح لهم الهجرة إلى بلاد غير إسلامية، نظراً لما كانوا يواجهونه من مخاطر الحرب والاعتقال والخوف على حياتهم. في ذلك الوقت، كانت هناك آراء فقهية تبيح اللجوء للضرورة، بينما رأى آخرون تحريمه إلا في حالات معينة. اليوم، ومع انتهاء الحرب وتراجع الخوف من الاعتقال والملاحقة، تبقى معاناة الفقر والضيق الاقتصادي عاملاً رئيسياً يدفع السوريين إلى عدم التفكير في العودة. لكن السؤال الذي يشغلنا الآن: هل انتفت الضرورة التي أُبيح اللجوء من أجلها، وبالتالي فقدنا الرخصة الشرعية للبقاء في أوروبا؟ وهل البقاء في هذه الدول رغم توفر الأمان والخدمات والوظائف يُعد معصية في حال لم تكن هناك ضرورة ملحّة؟ من ناحية أخرى، هل الأفضل العودة إلى سوريا والمساهمة في بنائها رغم الظروف المعيشية الصعبة، أم أن الاستقرار في أوروبا حيث تتوفر الحياة الكريمة والعمل والخدمات الأساسية هو الخيار الأرجح؟ أرجو توضيح الحكم الشرعي في هذه المسألة وفق ضوابط الضرورة والمصلحة العامة.
بسم الله، والصلاة على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الأصل في السفر إلى بلاد غير المسلمين هو الإباحة على الرأي الراجح لدى الفقهاء المعاصرين، خاصة في هذه الأوقات التي يجد فيها المسلم الأمن والأمان والحرية في هذه البلاد أكثر مما يجده في بعض بلاد المسلمين التي سيطر عليه الظلم والفساد في كل النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
غير أن المباح يتقيد بشرط السلامة كما قرر سادتنا الفقهاء قديمًا وحديثًا، فلا بد لمن أراد الإقامة في هذه البلاد، سواء للتعلم أو التعليم أو العمل أو غيرها، أن يأمن على نفسه ودينه ومن يعول، وأن يقوم بواجبه نحو الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالأفعال قبل الأقوال.
فإن عجز المسلم عن الحفاظ على نفسه وأهله والمحافظة على دينهم وأخلاقهم فيبحث له عن مكان آخر ﴿...وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًّا﴾ [الطلاق: 2]، ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ [الطلاق: 4].
ولو مكث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بجوار النبي – صلى الله عليه وسلم - ما انتشر الإسلام في شتى بقاع الأرض، لكنهم حملوا هذا النور ولم يذوبوا في هذه المجتمعات، ولكنهم حولوهم من الكفر إلى الإيمان، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام.
وفي واقعة السؤال لا يمكننا أن نطلب من الإخوة السوريين أو غيرهم الذين هاجروا وتركوا بلادهم بالملايين أن يعودوا فورًا دون ترتيب ودون التفكير في سبل العيش والتعليم وغيرها، فإن كان أنعم الله عليهم بالأمان غير أن بلادهم ينقصها الكثير، فمن يخاف على دينه أو أولاده فليعد فورًا ومن استطاع أن يحافظ على نفسه وأولادهم فهو مخير بين العودة والاستمرار والبقاء في بلاد غير المسلمين.
يقول فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي -رحمه الله-:
عصرنا هذا فرض أوضاعًا لم يكن يحلم بها المسلمون، وأصبحنا نجد الإسلام في كثير من البلاد دون جهد منا، فمثلاً أوربا احتاجت إلى العمالة من البلاد التي من حولها، فذهبت العمالة من شمال إفريقيا إلى فرنسا، وذهبت العمالة من تركيا إلى ألمانيا، وذهبت العمالة من الهند وباكستان وغيرهما إلى إنجلترا، واستقرت هذه العمالة واستوطنت، وأكثرهم أخذ الجنسية، ونشأ أولادهم يحملون جنسية هذه البلاد، ويتعلمون لغتها ويتعلمون في مدارسها، وأصبحوا جزءًا من المجتمع، فكان لا بد لهم من فقه غير فقه المسلمين في المجتمعات الأخرى.
وأنا أذكر أنه لما صدر كتابي "غير المسلمين في المجتمع الإسلامي" قابلني أحد الإخوة الهنود، وقال نحن في حاجة إلى كتاب آخر يكمل هذا الكتاب، قلت له وما هو؟ قال: "المسلمون في غير المجتمع الإسلامي"، فنحن نعيش في مجتمع غير إسلامي ولنا مشكلاتنا، ولنا إخوة يعيشون في أوربا وأمريكا ويحتاجون إلى فقه خاص.
وهذا ما تنبه إليه إخواننا في اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، وهذا أيضا من آثار الصحوة الإسلامية، حيث شعر المسلمون بوجودهم، بينما بعض الأقليات التي نشأت في بلاد غير الإسلام، ذهبت الأجيال الأولى منها وانتهت تمامًا، فمثلاً في أستراليا ذهب أناس من أفغانستان وأنشئوا مساجد رأيتها بعيني، مساجد وليس حولها مسلمون؛ لأن أهلها تزوجوا من الأستراليات، ولم تكن معهم زوجاتهم، ونشأ أبناؤهم على دين أمهاتهم، وضاع هذا الجيل، وهو نفس ما حدث في أمريكا اللاتينية، ففي الأرجنتين الجيل الأول ذهب وانتهى.
لكن مع الصحوة الإسلامية، شعر المسلمون بذاتياتهم، فبدءوا يبحثون عن إنشاء منظمات تمثلهم، وتحفظ هويتهم، مثل اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، الذي أنشأ بدوره عدة مؤسسات منها: المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث.
وعن قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"، وقوله: "من جامع مشركًا فهو مثله"؛ فهذه الأحاديث بعض العلماء يتعللون بها ويقولون إنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في بلد الكفار.
وهذه الأحاديث غير صحيحة، وثانيًا من ناحية تأويلها فإن حديث "أنا بريء" هذا قاله الرسول في مناسبة معينة، حيث إن مسلمًا قُتل أثناء القتال؛ لأن المهاجمين من المسلمين ما كانوا يعرفون أنه مسلم؛ لأنه كان يفترض أن يهاجر من هذه الأرض إلى المدينة، فقبل الفتح كان من الواجب على كل من أسلم أن يهاجر إلى المدينة المنورة، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فهؤلاء الذين بقوا في ديارهم وجاء المسلمون يغزون قومهم، ما الذي يعرفهم أن هؤلاء مسلمون؟ ولذلك فإن براءة النبي هي براءته من ديتهم؛ لأنه لم يهاجر من بلاد الشرك إلى بلاد التوحيد أو دار الإسلام في ذلك الوقت، وقد أُلغيت هذه الهجرة بعد الفتح "لا هجرة بعد الفتح".
فهذا معنى الحديث، ولو كان صحيحًا، فكيف ينتشر الإسلام في العالم؟ إذا كنا نبقى نحن المسلمين في ديارنا لا ندخل بلدًا إلا إذا كان مسلمًا؟ فالهجرة في سبيل الله أمر مهم، ولذلك نقول من كانت له حاجة إلى هذه البلاد فليذهب، فهناك من يذهب ليتعلم، الكثيرون تعلموا في أوربا أو أمريكا، أو للاستشفاء من بعض الأمراض لا يوجد لها علاج إلا في هذه البلاد، أو للعمل، حيث تضيق كثيرًا بعض بلادنا ولا يجد الناس فيها عملاً، والله تعالى يقول: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً} [النساء: 100].
شروط لا بد منها لجواز الإقامة:
ثم تناول الشيخ الشروط التي لا بد من توافرها لجواز الإقامة في هذه البلاد، فقال:
على المسلم الذي يذهب إلى هذه البلاد أن يتعاون مع إخوانه حتى يحافظ على هويته، وأنا لي محاضرة قديمة اسمها "واجبات المسلم المغترب" وأجملتها في خمسة واجبات: يحافظ على دينه، وينمي حياته الروحية والثقافية والفكرية، ويحافظ على أسرته؛ زوجته وأولاده، ويتعاون مع إخوانه المسلمين من حوله، فـ "كل غريب للغريب نسيبُ"، ولا يستطيع المسلمون أن يؤكدوا وجودهم إلا من خلال عمل جماعي، فكيف يبنون مساجد لعباداتهم، وكيف يبنون مدارس لتعليم أولادهم، ويقيمون أندية لأنشطتهم الاجتماعية والترويحية، ثم هناك واجبه نحو الذين يعيش من حولهم، سواء كانوا أمريكيين أو أوربيين، في أن يدعوهم إلى الإسلام ويعرفهم به من خلال أقواله وأفعاله وسيرته وأسوته، وأخيرًا واجبه نحو الأمة الإسلامية، فهو جزء من الأمة الكبرى وينبغي أن يُعنى بقضاياها.
وأذكر أنني قلت للإخوة في تلك الأيام إن من لم يستطع منكم أن يحافظ على نفسه وأسرته، وأولاده، وذراريه، وخاف أن يضيع دينهم، فليبدأ رحلة العودة لبلده من الغد، وأذكر أن أحد الإخوة في القاهرة جاء بعدها بسنتين، وقال: أنا فلان الفلاني، وسمعت محاضرتك في نيوجيرسي حيث قلت لنا إن من لم يستطع المحافظة على دينه فليبدأ رحلة العودة من الغد، وأنا لم أستطع أن أحافظ على أبنائي خصوصًا بناتي، وكدن يضعن مني، فبدأت رحلة العودة وربنا فتح لي هنا.
والله تعالى أعلى وأعلم