الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الابتلاءات والمصائب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
9 - رقم الاستشارة : 3565
13/12/2025
أنا رجال عمري دخل الخمسين، وكنت ولله الحمد تاجر بالسوق وأموري بخير، وربي كان فاتحها علي من أوسع أبوابه. ويشهد علي الله ما كنت أشوف الفلوس هذي لي لحالي، زكاتي أطلعها قبل وقتها، ولي أبواب خير مع أيتام ومحتاجين، وما كنت أرد أحد، وكانت كلمتي اللي دايم على لساني في كل روحة وجية وكل بيعة: توكلت على الله.
فجأة وبدون مقدمات انقلبت الدنيا. دخلت في صفقة حطيت فيها تحويشة العمر كلها، وبسبب ظروف السوق اللي تغيرت فجأة، طاحت تجارتي وخسرت كل ما أملك. صرت بين يوم وليلة مديون ومطالب بمبالغ فلكية، بعت سيارتي، وبعت ذهب أم العيال عشان أسدد، وتخيل.. عيالي اللي كانوا في عز ونعمة، صرت أجلس أفكر كيف أدبر لهم حق مقاضي البيت وعشاهم!
والله أكتب ودمعتي على خدي ومستحي من ربي، الشيطان قام يلعب براسي، أقرأ في القرآن وعد ربي (لئن شكرتم لأزيدنكم) و(وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه)، ويجيني وسواس يقول: وين الخلف؟ ووين الزيادة؟ أنا ياما أنفقت وياما شكرت، والنتيجة إني صرت على الحديدة والناس تطالبني!
هل توكلي السنين اللي راحت كان بس حكي لسان؟ ولا ليه ربي ابتلاني بهالشكل القاسي وأنا كنت في طاعته؟ أستغفر الله، أدري إن الله حكيم، بس قلبي موجوع.
أبي كلام يبرد على قلبي ويرجع لي يقيني قبل لا أخسر ديني بعد ما خسرت دنياي.
مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، وشكرًا جزيلًا لك على ثقتك بنا، وأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يربط على قلبك، ويثبِّت فؤادك، وأن يفتح لك من أبواب رحمته ورزقه ما تنسى به مرارة ما فقدت، وبعد...
فيا أخي الكريم، إن ما مررت به هو اختبار عظيم، وكما ذكرت أنت بلسانك: «أدري إن الله حكيم»، وهذا هو مفتاح الإجابة. اعلم أن حياة المؤمن ليست طريقًا مفروشًا بالورود دائمًا، بل هي مزيج من السراء والضراء، والمنح والمحن. وهذا هو جوهر الإيمان؛ أن تكون قريبًا من الله في الرخاء، فتجده قريبًا منك في الشدة.
سؤالك المؤلم يا أخي: «هل توكلي السنين اللي راحت كان بس حكي لسان؟»، جوابي عنه: بالنظر إلى ما ذكرته من حرصك على الزكاة، والصدقات، ورعايتك للأيتام والمحتاجين، وكلمتك الدائمة «توكلت على الله»، نقول لك: بل كان توكلًا صادقًا اقترن بالعمل الصالح والإنفاق. فالتوكل ليس مجرد كلمة تقال، بل هو عمل قلبي عظيم، وهو اعتماد القلب على الله وحده في جلب المنافع ودفع المضار، مع الأخذ بالأسباب.
كيف نعرف أن توكلك لم يكن مجرد كلام؟
- برهان العمل الصالح: توكلك ظهر في إنفاقك الواسع. فلو لم تكن متوكلًا على وعد الله بالخلف، لخفت من الفقر وبخلت، لكنك كنت تنفق، وهذا دليل على أن يقينك كان راسخًا في قلبك بوعد ربك.
- الآية الشاهدة: ﴿وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سبأ: 39].
- الخَلَف ليس بالضرورة أن يكون ماديًّا فوريًّا: تذكَّر أن الخَلَف قد يكون في صورة حفظ أولادك، أو صحة في بدنك، أو دفع بلاء أعظم، أو ادخار الأجر العظيم لك يوم القيامة.
- موقف الأنبياء والصالحين: لم يقل نبي من الأنبياء بعد الابتلاء: هل كان توكلي كاذبًا؟ بل قالوا: «حسبنا الله ونعم الوكيل»، واستسلموا لحكمة الله.
- قصة أيوب عليه السلام: كان أيوب أغنى الناس، ثم ابتلاه الله بفقد المال والولد والمرض، فما زاده الابتلاء إلا حمدًا وعبادة، حتى ضرب به المثل في الصبر. وعندما دعا، لم يطلب شيئًا مباشرًا؛ بل قال: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]. فكانت العاقبة: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ﴾ [الأنبياء: 84].
فتوكلك هو يقين، والابتلاء اختبار لهذا اليقين. فلا تجعل لوسوسة الشيطان مدخلًا لهدم ما بنيته طوال السنين.
أسرار الابتلاء والمحنة
سؤالك الموجع: «ليه ربي ابتلاني بهالشكل القاسي وأنا كنت في طاعته؟»
يا أخي، إن هذا الابتلاء نحسبه دليل محبة لا دليل غضب، وهو تطهير ورفع لدرجاتك.
إن الله يبتلي أحبابه ليختبر صدقهم، وليهيئهم لمنازل لا تدركها أعمالهم العادية. وإن كنت تطيع ربك، فابتلاؤك أشد من غيرك، وهذا لأن الله أراد أن يصطفيك. يقول النبي ﷺ: «إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مع عِظَمِ البَلَاءِ، وإنَّ اللَّهَ إذَا أحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فمَن رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، ومَن سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» [رواه الترمذي].
ولقد كان الأنبياء هم أشد الناس بلاء. ونبينا ﷺ مر بظروف قاسية، فقد الأهل والأحباب، وطُرد من بلده، وعانى الفقر والجوع، وحورب، ورغم ذلك كان أكثر الناس صبرًا وشكرًا.
وقد تكون هناك ذنوب لا تكفرها إلا مصائب الدنيا. فالله يبتليك لتخرج نقيًّا طاهرًا، لا تحمل على ظهرك ذنبًا يوم القيامة. يقول نبينا ﷺ: «ما يصيب المسلمَ من نَصبٍ، ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ، ولا حُزْنٍ، ولا أذىً، ولا غَمٍّ؛ حتى الشوكةُ يُشاكُها، إلا كفَّر اللهُ بها من خطاياه» [رواه البخاري].
إن العبودية في الرخاء سهلة، لكن العبودية في الشدة هي التي تميز المؤمن الحقيقي. فقد كنت تدعو وأنت غني، واليوم تدعو وأنت فقير ومكسور، فتتعلم معنى الفقر إلى الله والذل بين يديه، وهو مقام لا يصل إليه إلا القلة.
أخي الحبيب، إن الله يريدك أن تعرفه في أشد حالات ضعفك وحاجتك، لتقول بصدق: «يا رب، ليس لي سواك».
كيف تدفع وسوسة الشيطان
إن الشيطان يدفعك لتقول: «وين الخلف؟ ووين الزيادة؟ أنا ياما أنفقت وياما شكرت، والنتيجة إني صرت على الحديدة!».
أخي الحبيب، هذه وساوس شيطانية صريحة، وهدفها إفساد دينك بعد إفساد دنياك، فاحذرها!
إن الله وعد بالخلف، والخلف ليس شرطًا أن يكون في نفس التجارة وبنفس الطريقة. إن الخلف قد يكون خيرًا أضعافًا مضاعفة في الآخرة، أو قد يكون رزقًا حلالًا جديدًا يفتح لك بابًا لم تكن تتوقعه.
كم من تاجر خسر ماله، ففتح الله عليه باب عمل أو مشروع جديد لم يكن يخطر بباله، فكان خيرًا من تجارته القديمة!
يقول الله تعالى: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]. والشكر ليس فقط على المال؛ بل إن الشكر على المصيبة هو أعلى درجات الشكر. أن تشكر الله أنه لم يجعل ابتلاءك في دينك، أو في عافيتك، أو في أهلك، وأنك لا زلت قادرًا على تلاوة القرآن والدعاء.
إن الزيادة تشمل كل شيء: زيادة في الإيمان، زيادة في القرب من الله، زيادة في الأجر، وزيادة في الصبر واليقين. وهذه الزيادة خير وأبقى من ملايين الدنيا.
تذكر يا أخي أن رزقك مقسوم ومكتوب، لم تُنقصه الخسارة، ولم تكن لتزيده التجارة. هذا المال كان مقدرًا له أن يذهب الآن لحكمة يعلمها الله، وقد يكون ذهابه خيرًا لك.
الطريق لراحة القلب والعودة إلى اليقين
أخي الحبيب، إن قسوة البلاء قد تنسيك حلاوة الطاعة، ولكن لا تدعها تنسيك حسن الظن بربك. وأنصحك بالتالي:
1- الرضا والتسليم: كن راضيًا بقضاء الله. قل بصدق: «اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها». هذا الدعاء هو دواء القلوب وبلسم النفوس.
2- الاستغفار والاجتهاد في الطاعة: لا تتوقف عن الطاعة بحجة أنك ابتليت؛ بل زد في صلاتك، واستغفارك، وقراءة وردك اليومي من القرآن. فبها تُفتح أبواب الرزق الموصدة.
3- العزم على التغيير: قم وانهض. أنت تاجر، ورزقك لم ينقطع؛ بل هو مؤجل. توكل على الله، وابحث عن أبواب رزق جديدة، ولو كانت صغيرة، بقلب سليم ويقين راسخ.
4- لا تتوقف عن الإحسان: بل ابذل ما استطعت، وعلى قدر ما معك، وإن لم تكن تملك المال، فابذل الدعاء والنصيحة والكلمة الطيبة والمواساة لمن هم أشد حاجة منك. فهذا أيضًا صدقة. الله معك، ولن يخذلك أبدًا.
أسأل الله أن يجعل هذه المحنة رفعة لك في الدرجات ومغفرة للسيئات، وأن يرد لك عافيتك ورزقك مضاعفًا في القريب العاجل.
روابط ذات صلة: