الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الابتلاءات والمصائب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
71 - رقم الاستشارة : 3514
09/12/2025
يا شيخ، ربي رزقني بطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة (إعاقة ذهنية)، وأنا والله شايلاه بعيوني ومو مقصرة معه بشي. بس الصدق، في لحظات التعب والضعف يطري عليّ عتب خفي وأقول في نفسي: ليه يا ربي حرمت ولدي العافية والعقل؟ ولماذا ولدي؟ بعدها على طول أخاف وأستغفر وأبكي خشية من ربي. فهل هذا الخاطر اللي يمر عليّ يقدح في إيماني ورضاي بالقدر؟ وهل ربي بيأجرني على حرقة قلبي وألمي الداخلي، وللا الأجر بس على صبري وتحملي؟
مرحبًا بك أختي الكريمة، وأسأل الله أن يربط على قلبك، وأن يصب عليك الصبر صبًّا، وأن يجعل هذا الطفل المبارك قرة عين لك، وشفيعًا مجابًا يوم القيامة، وأن يخلف عليك في تعبك خيرًا وبركةً في الدنيا والآخرة، وبعد...
هل لحظات الضعف تقدح في الإيمان والرضا؟
اعلمي يقينًا –أختي الفاضلة- أن ما تشعرين به من خاطر عابر، أو تساؤل يلح عليك في لحظات التعب الشديد، هو أمر فطري لا يقدح في أصل إيمانك ولا في رضاك بقضاء الله وقدره، وذلك لعدة اعتبارات وأدلة:
1- الفرق بين «الخاطر» و«العزم»:
الله -سبحانه وتعالى- رحيم بعباده، وقد تجاوز لهذه الأمة عما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم. والخاطر الذي يمر بك هو رد فعل فطري للألم والتعب، والدليل على صدق إيمانك هو ما ذكرتِه في رسالتك: «بعدها على طول أخاف وأستغفر وأبكي خشية من ربي». فهذا الخوف والرجوع هو عين العبودية. ويقول النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكلَّمْ» [متفق عليه].
2- كراهية الخاطر دليل الإيمان:
جاء أناس من أصحاب النبي ﷺ فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ (أي تأتيهم خواطر سيئة جدًّا يخافون منها)، فقال ﷺ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قالوا: نعم. قال: «ذَاك صَرِيحُ الْإِيمَانِ» [رواه مسلم].
والمعنى هنا: أن خوفكم من هذه الخواطر، وكراهيتكم لها، واستعظامكم أن تنطقوا بها، هو دليل على صراحة الإيمان وخلوصه في قلوبكم. وأنت يا أختي فعلت هذا؛ خفت واستغفرت، فإيمانك بخير ولله الحمد.
3- الطبيعة البشرية والضعف:
الله خلق الإنسان وعلم ضعفه، قال تعالى: ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 28]. التساؤل: «لماذا أنا؟» في لحظة الانهيار النفسي هو «نَفَس التعب» وليس «نَفَس الاعتراض». حتى الأنبياء في لحظات الشدة بثُّوا حزنهم، فهذا يعقوب -عليه السلام- لم يقلل حزنه من صبره، بل قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ [يوسف: 86]. إن الشكوى إلى الله (يا رب تعبت، يا رب ألهمني، ارزقني فهم حكمتك التي اقتضت ذلك) تختلف تمامًا عن الشكوى من الله والعياذ به سبحانه.
هل الأجر على الصبر فقط؟
أبشرك -يا أختي- ببشرى عظيمة: إن الأجر يشمل كل ذرة ألم، ظاهرة كانت أو باطنة.
- الأجر على الهم والحزن:
الأجر ليس محصورًا في غسل الطفل وإطعامه وتحمل صراخه (الجهد البدني)؛ بل إن ألم القلب والهم والغم الذي يعتصرك، أجره عند الله عظيم جدًّا، وهو من المكفرات للذنوب والرافعات للدرجات.
تأملي هذا الحديث العظيم الذي هو بلسم لكل مهموم، يقول النبي ﷺ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكةِ يُشَاكهَا، إِلَّا كفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» [متفق عليه].
والهم هو القلق من المستقبل (كيف سيعيش ابني؟)، والحزن هو الألم على ما فات أو الواقع (لماذا هو مريض؟). فكل لحظة تتألمين فيها محسوبة لك في ميزان حسناتك.
- دمعة الرحمة لا تنافي الصبر:
عندما مات ابن النبي ﷺ (إبراهيم)، بكى عليه الصلاة والسلام. فقال له أحد أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ (أي أتبكي وأنت الصابر؟)، فقال ﷺ: «إِنَّهَا رَحْمَةٌ»، ثم قال: «إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِك يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» [رواه البخاري].
إذن؛ حزن القلب ودمع العين رحمة يثيب الله عليها، بشرط أن يظل اللسان ذاكرًا حامدًا، وهو ما تفعلينه بفضل الله.
الابتلاء في الولد يثقل الموازين:
حرقة قلبك هذه هي نوع من أنواع الابتلاء في الأحباب. وتصورك أن الأجر فقط على الخدمة هو تقليل من عظمة صبرك. إن الله ينظر إلى قلبك ويرى الألم الذي يملؤه خيفةً ورحمةً بولدك، فيكتب لك به أجرًا قد يفوق أجر الصيام والقيام.
لماذا ولدي؟ ولماذا أنا؟
أختي الفاضلة، دعيني أخبرك بكلمات قد تغير نظرتك لهذا الابتلاء:
- إنه حماية من فتنة أكبر: في قصة العبد الصالح وموسى في سورة الكهف، قتل العبد الصالح الغلام، فاعترض موسى. كان التفسير الإلهي: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكفْرًا﴾ [الكهف: 80]. الله علم أن هذا الغلام لو كبر معافى لكان سببًا في كُفر والديه وشقائهما، فاختار لهما حزن الفقد أو البلاء، رحمةً بدينهما. قد يكون مرض ولدك حماية لك وله من شرور لا يعلمها إلا الله.
- ابنك شفيع لا يُحاسب: ولدك هذا -بإذن الله- مرفوع عنه القلم، وليس عليه حساب ولا عذاب، هو في الجنة، وسيكون يوم القيامة فرطًا لك (أي سابقًا لك يمهد لك الطريق). وقد ورد في الأثر أن الأطفال الذين رُفع عنهم القلم يقفون على باب الجنة يرفضون الدخول إلا وآباؤهم معهم. هذا «الملاك الطاهر» في بيتك هو جسرك السريع إلى الجنة.
- أنت مصطفاة: الله اختارك أنتِ تحديدًا؛ لأنك قادرة، ولأنه يحبك. «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» [رواه الترمذي]. وأنتِ -رغم التعب- راضية ومحتسبة.
وختامًا أختي الفاضلة، أنتِ تقومين بمهمة عظيمة عجزت عنها الجبال. امسحي دموعك واستبشري، فكل لحظة ألم تتبعينها باستغفار هي درجة ترتقين بها في سُلَّم العبودية.
لا تحمِّلي نفسك فوق طاقتها، واعلمي أن الله شكور، يشكر لك ألمك، ويشكر لك صبرك. أسأل الله أن يربط على قلبك وأن يجعل الجنة مأواك.
روابط ذات صلة: