الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
76 - رقم الاستشارة : 1100
23/02/2025
كنت مواظبًا ومحبًّا لصلاة الجماعة، والآن أنا من أشد المقصرين فيها، أرى أنه لم يتغير في حياتي كثيرًا.. ففي قديم الزمن كنت أحزن لو فاتتني الصلاة في جماعة.. وكنت أشتاق إلى الصلاة في المسجد.. والآن لا أبالي أن أصلي في البيت.. فى المسجد.. فى الوقت أو بعد مرور الوقت مثلما يكون.. فما السبيل إلى العودة بارك الله فيكم؟
أخي الحبيب، مرحبًا بك في هذه البوابة التي نسأل الله -عز وجل- أن يجعلها بلسمًا يداوي القلوب، وعونًا لاجتناب الذنوب، ومرشدًا لعلاج العيوب، وأن يشرح الله –جل وعلا- بها صدور المسلمين والمسلمات، وبعد...
فأحب -أخي الكريم- أن أوضح لك أولاً أن المؤمن يقضي حياته الإيمانية ما بين قوة وضعف، وإقبال وإدبار، وارتفاع وانخفاض في منسوب الإيمان عنده، فالإيمان يزيد وينقص كما أخبر الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم- يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي.
والمؤمن مطالب دائمًا بأن يراقب المنسوب الإيماني عنده، ليستدرك أولاً بأول، فهو لا يدري متى توافيه المنية، ومتى ينقضي أجله، لذا ينبغي أن يحرص على جبر النقص متى شعر به، وهذا يتطلب منه جهاد نفسه ومراقبتها، والتحكم في دفتها، ليسهل له قيادها وسوقها في طريق الله عز جل.
وتبعًا لمستوى الإيمان عند العبد يتردد عمله بين الهمة والفتور، ولكن المؤمن الحصيف هو من يحرص على ألا يخرجه فتوره عن طاعة الله عز وجل، وأداء الفرائض الثابتة، ويصل به إلى المعصية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكل عمل شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي، فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» [رواه أحمد].
وقد وعى الصحابة والسلف -رضي الله عنهم- هذا المعنى وفطنوا إليه، فكانوا يستثمرون أوقات الهمة والشرة وإقبال النفس، فيكثرون من العمل، وفي أوقات الفترة وإدبار النفس كانوا يرفقون بها ويحسنون قيادها لكيلا تنحرف بهم، حتى تعود إلى سابق عهدها من الهمة والإقبال.
ولكني -أخي الحبيب- لا أريد أن يدعوك فهمٌ خاطئ لهذا الكلام إلى الاسترسال في الغفلة والاستسلام لها، بل إن ما أدعوك إليه هو العمل على فهم طبيعة نفسك مما يدعوك إلى حسن سياستها، وليكن رائدك قول الشاعر:
إذا هبَّت رياحها فاغتنمها *** فعقبى كلّ خافقة سكون
أخي الحبيب، لقد بدأتَ بالفعل في سلوك طريق الرجوع إلى سابق عهدك من المحافظة على صلاة الجماعة، حيث أدركتَ أنك على غير الجادة، وعزمتَ على الإصلاح والإنابة، وأرسلت إلينا تسألنا النصيحة والمشورة، وهذه بادرة خير. هذه البادرة الطيبة يجب أن تعقبها عدة أشياء:
أولاً- أن تعرف فضل صلاة الجماعة وحضور المساجد:
فإقامة الجماعة مع كونها سنة مؤكدة، فإن إقامتها في المجتمع المسلم من فروض الكفايات، وهي في حق الأفراد من آكد السنن، وقد جاءت آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة تحث عليها، وتبين فضلها، منها قوله عز وجل: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43]. ونلاحظ الأمر بمشاركة المصلين في صلاتهم.
وقال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء: 102]. فلعظم قدر صلاة الجماعة أمر الله -عز وجل- بالحفاظ عليها حتى في حال الحرب ومواجهة العدو، واهتم بها هذا الاهتمام إلى حد بيان طريقة القيام بها في هذا الظرف العصيب.
ومن الأحاديث الواردة في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هذه الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتَى به يهادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف» [رواه مسلم].
فتأمل معي أخي الحبيب، وانظر مدى حرص الصحابة على صلاة الجماعة، حتى إن المريض الذي معه عذره كان يُحمَل حملًا حتى يأخذ مكانه في الصف!
وإن التخلف عن صلاة الجماعة يدعو المرء لتأخير الصلاة عن وقتها، والتكاسل عنها، وربما تركها بالكلية مع الوقت.
هذا غير فوات الأجر العظيم المترتب على الحفاظ على صلاة الجماعة في المسجد، ونذكر في ذلك على سبيل المثال قوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» [رواه البخاري]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كُتب له براءتان: براءة من النار وبراءة من النفاق» [رواه الترمذي]. وقوله صلى الله عليه وسلم: «من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس أو مع الجماعة أو في المسجد غفر الله له ذنوبه» [رواه مسلم].
ثانيًا- سؤال الله التوفيق والإعانة:
وبعد أن عرفت وتذكرت، ادعُ الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقك طاعته، وأن يعينك على ذكره وشكره وحسن عبادته، فمن دون عون الله -عز وجل- وتوفيقه لا نستطيع أن نتقدم خطوة، ولا أن نأتي عملاً. وقد قال سبحانه: «ادعوني أستجب لكم».
ثالثًا- اتخذ صحبة تذكرك:
وتلك من أهم المعينات والأسباب للحفاظ على الجماعة، فيمكنك أن تتعاهد أنت وإخوتك أو زملاؤك، وأي ممن لك بهم رابطة أن يذكِّر بعضكم بعضًا، وتأخذوا بأيدي بعضكم بعضًا إلى المسجد وقت الصلاة.
رابعًا- اتخاذ وسائل آلية للتذكير:
وذلك مثل أجراس المنبهات، وبرامج الهاتف التي تؤذن بوقت الصلاة وتنبهك إليها قبل موعدها بدقائق، ووضع أوراق التقويم التي تتضمن مواقيت الصلاة في مكان ظاهر.
خامسًا- استعد للصلاة قبل وقتها:
إن أكثر ما يعطلنا عن صلاة الجماعة هو انشغالنا بأعمال مختلفة قبيل وقت الصلاة، فيأتي الوقت ونحن منهمكون في هذه الأعمال، فلا نستطيع تركها، أو يخدعنا الشيطان بأنه يمكننا إنجازها والانتهاء منها قبل الإقامة، ثم تأخذنا الغفلة فلا نفيق إلا بعد فوات الوقت. والحل الوحيد لتجنب الوقوع في هذا الفخ الذي ينصبه لنا الشيطان أن نستعد للصلاة قبل وقتها بفترة كافية، ونرفض الانشغال بأي شيء سوى ذلك.
إن وقت الصلاة لا يأتي فجأة ليربكنا، بل إن موعده معروف ومحدد، فلنتوقف مثلًا عما في أيدينا قبل وقت الأذان بربع ساعة مثلًا أو خمس دقائق –حسب ظروف كل منا وعمله– ونذهب لنتوضأ ونأتي المسجد فنصلي تحية المسجد، والنافلة القبلية، والتي غالبًا ما نحرم منها إن لم نبكر في الذهاب للمسجد. وفي هذا التبكير فضل عظيم وثواب جزيل، غير أنه يهيئ النفس للصلاة المفروضة، بذهن صاف وقلب حاضر وجسد خاشع.
وانظر كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يفعل حين يأتي موعد الصلاة، إكبارًا لها وتعظيمًا لشأنها، حيث تقول عنه زوجته عائشة رضي الله عنها: «كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ - تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ - فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ» [رواه البخاري]. وقد روي عن بعض السلف أنه كان يعمل في حقله، فيرفع الفأس، فيسمع الأذان والفأس في الهواء، فلا ينزل بها على الأرض، بل يلقيها من يده مرددًا: «الله أكبر الله أكبر». نعم الله أكبر من العمل، ومن الأهل، ومن الناس، ومن كل الدنيا.
سادسًا- رفع الرصيد الإيماني:
وذلك بعمل الطاعات والقربات المختلفة، من ذِكر، ودعاء، وقيام، وصيام، وتلاوة القرآن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، والصدقة، وغض البصر عن المحرمات، والعمرة، والحج... إلخ، فكلها تزيد الإيمان وترفع مقداره، فيدفع ذلك للمزيد من الطاعات والعمل الصالح. وبالطبع يجب أن يصاحب ذلك اجتناب المعاصي بكافة صورها وأشكالها، فإن الطاعة تجلب وراءها طاعات، والمعصية تجلب وراءها معاصي.
وتبعا لذلك، فإني لمتأكد أخي أن تقصيرك لم يتوقف عند ترك صلاة الجماعة فقط؛ بل من المؤكد أنه صاحب ذلك وسبقه وتبعه تقصير في واجبات أخرى، فانظر في جوانب حياتك المختلفة، والمح مواطن العيب والتقصير في نفسك، وابدأ بالاستدراك في كل جانب من الجوانب، وأبشر بإقبال الله عليك إن أقبلت عليه، حيث وعدك إن تقربتَ إليه شبرا أن يتقرب إليك ذراعًا، وإن تقربتَ إليه ذراعًا تقرب إليك باعًا، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة.
سابعًا- مطالعة سير الصالحين:
فعندما تقرأ أو تسمع سير الصالحين، وكيف كانوا يحرصون على العبادة حرصهم على أرواحهم، تشربَت نفسك منهم علو الهمة، وازدادت إقبالًا على الطاعة وبعدًا عن المعصية، ودفعتك للتشبه بهم والتأسي بسيرتهم والاقتداء بأفعالهم.
هذا ولا تظنن أخي أنك ستعود سريعًا إلى سابق عهدك وبسهولة، فإن الأمر متوقف –كما أخبرتك سابقا– على رصيدك الإيماني، والمدة التي قضيتها بعيدًا عن رحاب المسجد وصلاة الجماعة، ويتوقف الأمر كذلك على صدق نيتك وتوفيق الله -عز وجل- لك، فلا تستوحش الطريق فتيأس عندما تجد مقاومة من نفسك، وتشعر بثقل العبادة عليها، بل اصبر عليها، وجاهدها في الله -عز وجل- (والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69]، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يُفتَح له.
وفقك الله أخي لطاعته، وفتح عليك أبواب الخير، وتابعنا بأخبارك.