Consultation Image

الإستشارة 09/03/2025

معكم عبدالحكيم محمود، من مصـر، أنا أبٌ لعددٍ من الأبناء والبنات في مراحل عمرية مختلفة، وأسعى دائمًا إلى تربيتهم على معاني الإيمان والعزة والكرامة، لكنني أشعر أحيانًا أن التحديات المعاصرة قد تضعف ارتباطهم بقيم الدين والوطن.

في كل عام، تحل علينا ذكرى انتصارات العاشر من رمضان، وهي ذكرى عظيمة تعكس صمود الشعب المصري وقوة الجيش في مواجهة الاحتلال والعدوان، لكني أجد أن كثيرًا من أبنائي ينظرون إلى هذه الذكرى وكأنها مجرد حدث تاريخي بعيد، لا يتصل بحياتهم أو واقعهم.

والسؤال الآن: كيف يمكنني كأب أن أستثمر هذه الذكرى تربويًّا ودعويًّا وإيمانيًّا مع أبنائي وبناتي، بحيث تصبح جزءًا من وعيهم وهويتهم؟ كيف أجعلهم يدركون أن هذه ليست مجرد قصة من الماضي، بل هي درسٌ للحاضر والمستقبل، خاصة في ظل ما نواجهه اليوم من تحديات فكرية وثقافية واجتماعية تهدد انتماء الأجيال الجديدة؟

أريد منهجية عملية تُمكّنني من غرس معاني النصـر، والعزة، والدفاع عن الدين والوطن، وربطهم بقضايا الأمة الكبرى، وعلى رأسها قضية المسجد الأقصـى، مع مراعاة أن الواقع الذي نعيشه اليوم مختلف عن الماضي، فكيف أجعل هذه الذكرى أداةً لبناء الوعي والإيمان في نفوس أبنائي؟

الإجابة 09/03/2025

الحمد لله والصلاة والسلام على سيد الدعاة وإمام الهداة، وبعد:

 

فمرحبا بك أيها الأب الكريم، وسؤالك هذا يعكس وعيًا عميقًا بمسؤوليتك التربوية؛ فالأمة لا تُبنى إلا بآباء يدركون دورهم في صناعة الأجيال، وإن استثمار ذكرى العاشر من رمضان تربيةً ودعوةً وإيمانًا هو خطوة في طريق إعداد جيل يحمل همّ دينه ووطنه بقلبٍ واعٍ وعقلٍ مستنير، ولعِظَم سؤالك وواقعيته الراقية، اسمح لي أن أقدّم لنفسـي ولكَ ولغيرك هذه الكلمات؛ لعلها تكون برنامجًا عمليًّا في التعامل الدعوي والتربوي مع أحداث وذكريات تاريخنا الإسلامي القديم والحديث.

 

أولًا: تأصيل المفهوم العقدي للنصر والتمكين

 

من الأهمية بمكان أن تدرك أن انتصار العاشر من رمضان لم يكن مجرد تفوق عسكري؛ بل كان انتصارًا للإرادة والعزيمة، ونتيجة طبيعية لوعد الله في نصـرة المؤمنين إذا أخذوا بالأسباب.

 

يمكنك أن تشرح لأبنائك أنّ النصر الحقيقي يبدأ من الداخل، من الثقة بالله، والجد والاجتهاد، تمامًا كما بدأ انتصار المسلمين في بدر، وكما قال الله تعالى: ﴿إِن تَنصُـرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ﴾، قم بربْط هذه المعاني بحياتهم اليومية، وأوضح لهم أنّ النجاح في الدراسة، والتفوق في العمل، وإتقان المهارات، كلها أشكالٌ من النصـر الذي يبدأ من الفرد لينعكس على واقع الأمة كلها.

 

ثانيًا: تفعيل القيم التربوية المستفادة من النصر

 

يمكنك استثمار ذكرى العاشر من رمضان لغرس قيم عديدة في نفوس أبنائك، منها:

 

1) قيمة الإعداد والتخطيط: لم يكن النصـر وليد اللحظة، بل جاء بعد سنوات من الاستعداد والتخطيط، وهو ما يؤكد أهمية وضع الأهداف والسعي لتحقيقها.

 

2) قيمة التضحية والفداء: بيّن لهم أن جنود مصـر قدموا أرواحهم دفاعًا عن الأرض والعِرض، وهذا يستدعي أن يكون لهم الدور الإيجابيّ في الدفاع عن هويتهم وقيمهم في هذا العصر، من خلال التمسك بالمبادئ والثوابت.

 

2) قيمة العمل الجماعي: لم يكن النصـر بجهد فردي، بل هو ثمرة تعاون الجيش والشعب، وهذه رسالة لهم بأن النجاح في أي مجال يتطلب العمل بروح الفريق.

 

3) قيمة الأمل واليقين: فإنّ نصـر الله لا يتنزل على اليائسين؛ بل على أصحاب الأمل واليقين في الله، والذين مُسِح من قلوبهم وعقولهم مصطلحات اليأس والتشاؤم؛ انطلاقًا من الأمر الإلهي (ولا تيأسوا).

 

ثالثًا: ربط الذكرى بالقضية الفلسطينية والمسجد الأقصى

 

إن من بين الأخطاء الشائعة أن ينظر الأبناء إلى هذا النصـر باعتباره معركةً انتهت، دون إدراك امتداد القضية. وهنا يأتي دورك في توعيتهم بأنَّ العاشر من رمضان كان محطةً في صراع الأمة مع الاحتلال، وأنّ المسجد الأقصـى لا يزال أسيرًا، مما يستدعي منهم معرفة القضية، ومتابعة مستجداتها، والدعاء لها، ونشر الوعي عنها بين أقرانهم، وذَكِّرهم بأن الأمة التي انتصـرت في رمضان قادرة بإذن الله على تحقيق انتصارات أخرى، متى ما اجتمعت فيها شروط النصر التي تحققت في ذلك اليوم.

 

رابعًا: أساليب عملية لتفعيل الذكرى داخل الأسرة

 

لجعل العاشر من رمضان ذكرى حيَّة في وجدان أبنائك، إليك بعض الأفكار العملية، وذلك على النّحو التالي:

 

1) مشاهدة الأفلام الوثائقية والمناقشة حولها: بعد المشاهدة، اجلس مع أبنائك وحللوا الأحداث، واسألهم: ما العوامل التي أدت إلى النصر؟ وما الدروس المستفادة؟

 

2) زيارة المتاحف والبانوراما العسكرية: اصطحبهم إلى الأماكن التي توثق هذه الأحداث، لتترسخ المعاني لديهم بصورة بصرية وتجريبية.

 

3) إجراء مسابقات أسرية ثقافية: اسألهم عن أسماء القادة الذين شاركوا في الحرب، وعن أهم المحطات التاريخية المرتبطة بها، مع تقديم جوائز تحفيزية.

 

4) تحفيظهم آيات وأحاديث عن النصـر والجهاد: مثل قوله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُـرُهُ﴾ وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).

 

5) إقامة نقاشات حول الواقع المعاصر: اسأل أبناءك: ما التحديات التي تواجه الأمة اليوم؟ وكيف يمكننا أن نكون جزءًا من نهضة الأمة؟ دعهم يعبرون عن آرائهم ووجّههم بلطف.

 

خامسًا: تنمية الوعي بمخاطر الحرب الفكرية والثقافية

 

يعيش أبناؤنا اليوم في معركةٍ من نوعٍ آخر، ليست بالأسلحة، ولكن بالأفكار، والإعلام، والثقافة، لذلك لا بد من تحصينهم فكريًّا. علّمهم كيف يميزون بين الحقائق والأكاذيب، وأهمية أن يكونوا ناقدين لا مقلدين؛ حتى لا يُختطف وعيهم في زحام الفتن والشبهات.

 

وختامًا:

 

فإِنَّ استثمار ذكرى العاشر من رمضان ليس مجرد سردٍ للتاريخ، بل هو عملية بناءٍ للأجيال، تزرع فيهم معاني العزة والإيمان والمسؤولية، وتجعلهم يدركون أن النصـر له سُننًا، وأن الحفاظ على الدين والوطن أمانةٌ تحتاج إلى رجال ونساء يحملون همّها بإيمانٍ ووعيٍ وعمل، وأسأل الله تعالى أن يحفظ الأجيال الناشئة بحفظه، وأن يديم عزّ أوطاننا وأمّتنا .. اللهم آمين.