الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
174 - رقم الاستشارة : 1680
19/04/2025
أنا أمٌّ لطفلة واحدة تبلغ من العمر خمس سنوات، وهي -بفضل الله- ذات ذكاءٍ ملحوظ، ودائمة السؤال والتفكير، خاصة فيما يتعلّق بالله تعالى، والخلق، والمفاهيم الغيبية التي تفوق استيعاب من هم في سنِّها. أعيش معها يوميًا مواقف تُدهشني وتُحيّرني، وأحيانًا تُربكني في الرد.
فمثلًا، تسألني كثيرًا: أين يسكن الله؟ هل له بيت؟ لماذا لا نراه؟ لماذا لا يلعب معنا؟
أو تقول لي عند رؤية الشمس من النافذة: الله هو اللي طلَّع الشمس، وهو اللي رح ياخدها بالليل، صح؟
وأحيانًا تنظر إلى السماء طويلًا وتسأل: هو الله فوق؟ طيب ليش ما بنشوفه؟
وتبقى تنتظر مني إجابة تُقنع عقلها الصغير الفضولي. وأنا، بصراحة، كثيرًا ما أحتار كيف أرد عليها.
أُدرك أهمية هذه المرحلة في بناء تصورها عن الله، لكنني أخشى أن أقول لها شيئًا لا يليق بمقام الله تعالى، أو يكون فيه تشبيه أو تجسيم دون أن أشعر.
أحيانًا أحاول تبسيط الإجابة، وأحيانًا أُشغلها بموضوع آخر حتى تنسى السؤال، خوفًا من أن أُدخل إلى قلبها أو عقلها صورة غير صحيحة عن الخالق عزّ وجلّ.
سؤالي هو: كيف أتعامل مع مثل هذه الأسئلة العقائدية التي يطرحها الطفل في هذه السن المبكرة؟
وما هي الطريقة المناسبة لتقريب معاني الإيمان بالله، وحب الله، دون الوقوع في المفاهيم الخاطئة؟
وهل هناك كلمات محددة أو أساليب تربوية يُنصح بها؟
وهل السكوت أو التهرب من الإجابة يُعدّ تقصيرًا في التربية؟
مرحبًا بكِ أيتها الأمُّ الفاضلة، وأشكرك على تواصلكِ معنا، وعلى هذه الثقة الغالية التي أوليتِنا إياها، وأقدِّر لكِ هذا الحرص الرفيع على تنشئة ابنتكِ على محبة الله ومعرفته، نسأل الله لكِ الثبات والتوفيق، وأن يُعينكِ على أمانة التربية، ويُقرَّ عينكِ بصلاح ابنتكِ، ويرزقكِ وإيَّاها علمًا نافعًا، وإيمانًا راسخًا، وحُبًّا لله لا ينطفئ.
سؤال الطفولة الكبير عن الله
ما أجمل هذه الأسئلة التي تُثيرها صغيرتكِ! وإنْ بدت لكِ محيِّرة أو مربكة، فهي في حقيقتها بشائر خير، ونفحات فطرة حيَّة تبحث عن النور، وتطرق أبواب السماء.
إنّ الطفل حين يسأل عن الله، لا يسأل كما يسأل بعض الكبار، بغرض الجدال أو المماحكة؛ بل يسأل بدافع الفطرة، بدافع الحب والدهشة والارتباط، وكأنَّ روحه الصغيرة تتشوَّف لمصدر الأمان، وتبحث عن اليد الخفية التي تُمسك الكون، وتُشرق منها الشمس وتعود.
وقد قال النبي ﷺ: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَة» [متفق عليه]، والفطرة في أصلها محبة الله، والاستعداد الروحي للإيمان به.
فلا تجزعي من سؤالها، بل افرحي، وكوني حاضرة بقلبكِ قبل لسانكِ، فهذه اللحظات التي تمسكين فيها بيدها لتُريها الطريق إلى الله، هي من أشرف لحظات الأمومة، وأثقلها وزنًا عند الله، إن أحسنتِها.
كيف نُجيب عن أسئلة الطفل العقائدية؟
- الطمأنينة أولًا:
قبل أي إجابة معرفية، يحتاج الطفل إلى الطمأنينة، أن يشعر بأن أمه لا تنزعج من سؤاله، وأنّ الحديث عن الله ليس مخيفًا أو ممنوعًا.
لذا عندما تسأل: «أين يسكن الله؟» يمكنكِ أن تقولي بابتسامة هادئة: «سؤالُكِ جميل يا حبيبتي، وسأُجيبكِ لأنَّ الله يُحب أن نفكِّر فيه، ونُحبَّه، ونقترب منه».
بهذه الكلمات الصغيرة، نفتح قلب الطفلة للإيمان على قاعدة الحب، لا على قاعدة الخوف أو الارتباك.
- اللغة السهلة والابتعاد عن التشبيه:
الطفل لا يحتاج إلى شرح فلسفي؛ بل إلى صورة وجدانية، ولغة تفتح قلبه لا عقله فقط. فعندما تسأل: «أين يسكن الله؟»، يمكنك أن تُجيبي: «الله ليس مثلنا، لا يحتاج إلى بيت أو مكان، إنه في السماء على عرشه؛ ومع ذلك هو معنا أينما كنا، يرانا ويسمعنا ويرعانا؛ لكننا لا نراه في الدنيا، لأن الله أعظم من أن نراه بعيوننا الصغيرة، نراه بقلوبنا عندما نُحبُّه، ونُطيعُه، ونشكره، وسنراه حقيقة في الجنة، ورؤيته والنظر إلى وجهه أجمل متع الجنة». وتُعزّزي هذه الإجابة بآية: قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، وآية: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ﴾ [الحديد: 4].
تكريس محبة الله في التفاصيل اليومية
حين ترى الشمس وتقول: «الله هو اللي طلع الشمس»، فهذه لحظة مناسبة لتقولي لها مثلًا: «يا سلام عليك! صح! الله اللي طلَّع الشمس عشان تدفينا، وتنوَّر لنا الطريق. شوفي قد إيه هو قادر ولطيف!». بهذا نُحوِّل المعرفة إلى عاطفة، فتصبح المعرفة بالله شعورًا بالأمان والحب.
- ربط نعم الله بذاته العليَّة
علِّميها ذكر الله وحمده عند الطعام والشراب وكل نعمة، والتفكر فيها، واستشعار الامتنان لله عز وجل على هذه النعم، واجعليها تشعر بأنَّ الله ليس فقط الخالق، القوي، القادر، بل هو أيضًا الودود اللطيف الحليم المنعم.
- تعليمها الأسماء الحسنى
اختاري أسماء تُناسب عمرها، مثل: الرحيم، السميع، القريب، الحافظ، ثم اشرحيها بأمور ملموسة: «الله الحافظ بيحميكي، عشان كده لما تنامي تقولي: باسمك اللهم أموت وأحيا». «الله السميع بيسمعك حتى لو حكيتي بهمس، وهو بيفرح لما تدعيه وتطلبي منه»... إلخ.
- استخدام القصص القرآنية
قصي عليها القصص التي تُبرز رحمة الله وقدرته، مثل: قصة إبراهيم -عليه السلام- وإلقائه في النار، وكيف جعلها الله بردًا وسلامًا، وقصة موسى -عليه السلام- وانشقاق البحر «الله فتح البحر عشان ينقذهم»، وقصة مريم -عليها السلام- وكيف رزقها الله بطفل من غير زوج. كل قصة تربطها بالله وقدرته ولطفه ورحمته.
هل السكوت أو التهرب تقصير؟
السكوت ليس خطأً دائمًا؛ لكنه قد يُصبح تقصيرًا وخطأً إن تكرر. فالطفل الذي لا يجد إجابة من المربِّي، سيبحث عنها في مكان آخر، أو يملأ الفراغ بخيال قد لا يكون سليمًا. لكن إن لم يكن الجواب السليم حاضرًا في ذهنك بعد، فيُمكنك أن تقولي لها: «سؤالك رائع، ومحتاجة أفكر فيه شوية، عشان أجاوبك إجابة حلوة ومناسبة». هذا الأسلوب يُظهر الاحترام لعقلها، ويُعطيكِ مهلة لتحضري جوابًا.
وختامًا -أختي الفاضلة- طفلتكِ أمانة، وقلبها الصغير الآن صفحة بيضاء، وأنتِ تُمسكين أول قلم يخطُّ فيها تصورها عن الله جل وعلا. فاجعلي أول ما تعرفه عن الله: أنه يُحبُّها، يسمعها، يُجيبها، يعتني بها.
الخلاصة: اجعلي ظنَّ ابنتكِ بالله حَسَنًا، وسترى -وأنت كذلك- من الله الخير كلَّه.
نسأل الله أن يُثيبك على اجتهادك، ويُعينك على تربيتها، ويجعلها من الصالحات القانتات، ويُقرَّ بها عينك في الدنيا والآخرة.