الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
40 - رقم الاستشارة : 1156
28/02/2025
هل النزعة الاستهلاكية لها ارتباط بالفلسفة المادية؟ وهل من الضروري في رمضان الانتباه لهذا المازق؟
المتابع لوسائل الإعلام مع اقتراب شهر رمضان يلحظ أنها تركز على جانبين مهمين:
الأول: الحديث المطول عن الطعام وأصنافه، والاستهلاك بشتى أنواعه.
الثاني: الترفيه بشتى وسائله، وكأن الصيام لحظة معاناة تستوجب التخفيف.
ونلحظ أن الأمرين السابقين يكشفان عن حجم الاستهلاك المخيف في ذلك الشهر، والتوقعات تشير إلى أن يحقق بيع التجزئة حوالي (66) مليار دولار خلال هذا الشهر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهو مبلغ ضخم للغاية، ويطرح تساؤلات حول تأثير النزعة الاستهلاكية على الدين، وهل تعبر تلك النزعة عن ابتعاد عن حقيقة الدين ومعناه الإصلاحي والتهذيبي للنفس.
شعائر الاستهلاك
النزعة الاستهلاكية يتحول فيها الاستهلاك إلى غاية، ووسيلة لتحقيق المعنى، وتعد من النزعات الخطرة، التي تنامت في المجتمعات الغربية الرأسمالية ثم انتقلت إلى المجتمعات الثرية وكذلك الطبقات الثرية في العالم، حتى أصبح الاستهلاك وسيلة للحصول على القيمة والسعادة.
هذه النزعة الاستهلاكية حذّرت منها الكثير من الكتابات الغربية، ورأت أن الاستهلاك أصبح دينًا، له مكانه المقدس وهو الأسواق الضخمة، وله شعائره في التجول بعربات التسوق في المولات الضخمة، كما أنه بات يحقق المعنى الذي يفتقده الإنسان المعاصر.
ورأى مفكرون وباحثون في علم الاجتماع الغربي أن النزعة الاستهلاكية أصبحت أقوى من الدين المسيحي لدى قطاعات واسعة في المجتمع الغربي، وأن تلك النزعة أصبحت عاملاً مهمًّا في تشكيل الإيمان وتحقيق الروحانية للإنسان، ومن هؤلاء عالم اللاهوت الأمريكي "هاري كوكس" في كتابه "السوق كإله"، والذي حذر فيه من أن السوق أصبح مؤلها، وأن هياكل الرأسمالية المعاصرة أصبحت مشابهة لهياكل المؤسسة الدينية، وأن الاستهلاك أصبح دينًا، وأن هذا الإله الجديد لا يعرف العدل أو المساواة، فالسوق حسب "كوكس" له صفات مقدسة، وتغلغلت عقيدته في قلوب الكثيرين، حتى صار التوقف عن التسوق أزمة وجودية.
تحول الاستهلاك إلى ثقافة، خلق أزمات معقدة داخل النفس والمجتمع، فالإنسان أصبحت قيمته تتحدد بمقدار ونوعية استهلاكه، ومن هنا تحول الاستهلاك إلى ما يشبه الأيديولوجيا التي تمد الفرد بالاستمتاع والحرية وإثبات الذات من خلال التسوق.
ونشير هنا إلى المصطلح الذي أطلقه الدكتور عبد الوهاب المسيري وهو "الإمبريالية النفسية"، تلك الظاهرة التي غاب عنها فكرة ترشيد الاستهلاك، فخلقت إنسانًا ذا بعد واحد، يبتغي الربح لتعظيم الاستهلاك وإشباع ملذاته التي لا ترتوي، وأسماها آخرون "حضارة الفوارغ" التي تستهلك كل شيء، وتبدد كل شيء من أجل الاستمتاع بالاستهلاك؛ فالمادية أصبحت رؤية مُستبطنة في الحياة، وصار الاستهلاك هو أبرز تجلياتها.
هذه اللحظة الاستهلاكية التي تعم الكثير من المجتمعات العالمية، ولدت ما يمكن تسميته بـ"الإدمان الاستهلاكي" أو "مدمني التبضع" كما يشير المصطلح الغربي، وهؤلاء طائفة فارغة من الداخل؛ فالشخص يذهب للتبضع ليس من أجل الشراء وليس من أجل سد حاجاته، ولكن تدفعه حالة إدمانية للتسوق تكاد تشبه الإيمان.
تؤكد الدراسات النفسية والاجتماعية أن "الأبحاث الجديدة تكشف أن بعض المتسوقين المتحمسين ينفقون أموالهم لتعزيز احترام الذات وعلاج عيوب داخلية أخرى، في حين أن عربات التسوق لدى آخرين مدفوعة بالمادية، ويتفق الباحثون أن سلوكيات الشراء قد تتراوح بين المتعة التافهة والإدمان الخطير".
ولهذا رأى البعض أن الاستهلاك أصبح دينًا، مثل المفكر "يوفال نوح هراري" في كتابه "العاقل" حيث رأى أن الاستهلاكية المفرطة هي نوع من القتل البطيء، وأن ذلك مرض يستوجب العلاج، وهذا العلاج يقتضي تصحيح الرؤية تجاه الاقتصاد والإنفاق، ويجب أن يقتنع الناس أن الانغماس في الملذات ليس مفيدًا، وأن الاقتصاد ليس قمعًا للذات، يقول "نوح": "إن الاستهلاك يمتص ويغير ويحول المعتقدات والأيديولوجيات القائمة إلى سلع تجارية".
وقد أشارت بعض الدراسات إلى أن الاستهلاك قد يشكل تفكير الإنسان من خلال طرق منها:
* خلق حالة من عدم الرضا عن الحياة، وتلك الحالة هي المحرك للاستهلاك.
* الفردية: وتلك الروح تجعل قرار الاستهلاك ذاتيًّا ومن أجل الذات، وبالتالي يتم تناسي المجتمع أثناء أخذ قرار الاستهلاك.
* التسليع: أي تحويل كل شيء إلى حالة سلعية قابل للبيع الشراء، وهنا تقترن السلعة بالقيمة، والقيمة تتحدد وفق السعر والعلامة التجارية، وتلك العلامة هي من يحقق المعنى للإنسان الاستهلاكي.
سمحت تلك الأفكار الجذابة والمدمرة للمعنى في الحياة، بإعادة تشكيل كثير من المجتمعات والطبقات والمؤسسات على قيم الاستهلاكية النهمة، ليحل السوق وقيمة وأفكاره، مكان كثير من القيم والهياكل الاجتماعية والسياسية، حتى الأفكار الدينية ذاتها تم تغذيتها بتلك النزعة الاستهلاكية التي أضعفت عمق التدين؛ فالاستهلاك أصبح غاية وترتب على ذلك انكفاء الأفراد على أنفسهم، وضعف اهتمامهم بالعالم.
من هنا نستطيع أن نقول إن الصيام الذي هو رمز لقوة الإرادة، يجب أن يتلازم فيه الامتناع عن الطعام الشراب والمفطرات، مع امتناع أيضًا عن تلك النزعة الاستهلاكية المفرطة، التي أخضعت الإنسان للمادية والنهم، وأوجدت النفس التي لا تشبع، تلك النفس التي كان يستعيذ منها النبي صلى الله عليه وسلم، يقول شراح الحديث عن تلك النفس أنها "لا يزال صاحبها نهمًا، يطلب الدنيا ويسألها ولا يُشبعه شيء ولا يرويه شيء، كالنهم الذي لا يروى"، وقيل: "نفس لا تشبع من جمع الحطام، والحرام، ولا تشبع من كثرة الطعام، والإنعام الذي يؤدي إلى النهمة".