Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. أميمة السيد
  • القسم : الأطفال
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 12
  • رقم الاستشارة : 2062
25/05/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

الدكتورة أميمة، أستأذنك أن أطرح عليكِ استشارة أرهقتني نفسيًا كأب. أنا أب لعدة بنات، والحمد لله أحرص على متابعتهن وتربيتهن تربية صالحة قدر استطاعتي.

لكن عندي مشكلة تخص ابنتي الصغيرة، وعمرها الآن ٨ سنوات. لاحظت في الفترة الأخيرة أنه عندما تغضب أو تحزن – سواء من أختها أو منا نحن كوالديها – لا تعبّر عن غضبها بصراخ أو بكاء مثل باقي الأطفال، بل تنفعل من داخلها بشكل صامت، وتبدو وكأنها "تحبس" الغضب بداخلها، ووجهها يحتقن، وتضغط على أسنانها بقوة وتجزّ عليها بشكل غريب وملحوظ، حتى أني أخاف أن تؤذي نفسها أو تؤثر على شكل أسنانها أو فكّها، كما أن هذا المشهد كله يدعو للقلق.

أنا لا أفهم تحديدًا ما الذي يجعلها تكتم كل هذا الغضب داخلها، ولا كيف أساعدها على التعبير عنه بطريقة صحية.

هل هذا السلوك طبيعي؟ وهل يدل على مشكلة نفسية أو شيء داخلي؟ وما هو التفسير العلمي والتربوي لهذا الفعل؟ وكيف أتعامل معها كأب؟ وهل هناك طريقة معينة لتقويم هذا السلوك بدون أن أزيد الضغط عليها؟

أرجو التوجيه من حضرتك، وجزاكِ الله خيرًا.

الإجابة 25/05/2025

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،

 

مرحبًا بك أيها الأب الكريم،

 

 

أعجبني هذا الحضور التربوي الناضج فيك، والاهتمام الصادق بمشاعر ابنتك وسلوكها. فكم من أب يغيب عن تفاصيل أطفاله النفسية، وها أنت تقف أمام انفعال صغير بقلق كبير، وهذا عين الرحمة التي قال عنها رسول الله ﷺ: «من لا يَرحم لا يُرحم».

 

أولًا، أطمئنك: ما تصفه من سلوك ابنتك –جزّ الأسنان وقت الغضب أو الانفعال الداخلي– لا يُعد سلوكًا شائعًا، لكنه كذلك ليس مرضًا نفسيًّا بالضرورة، بل هو أقرب ما يكون إلى ما يُعرف في علم النفس بـSomatic Expression of Emotions ، أي التعبير الجسدي عن المشاعر المكبوتة.

 

إن ابنتك –على ما يبدو– من الأطفال ذوي النمط الانفعالي الداخلي (Internalizing Children)، وهو نمط يُشير إلى الأطفال الذين لا يُعبّرون عن انفعالاتهم بالخارج، بل يُخزنونها في داخلهم، ويترجمها الجسد بصورة لا إرادية. والجزّ على الأسنان (Bruxism) حين يكون مرتبطًا بالمواقف الانفعالية، يُعدّ عرضًا نفسيًّا جسديًّا.

 

أولًا: من حقك أن تتعرف على ما يحدث لابنتك نفسيًّا:

 

في عمر الثامنة، تكون المشاعر قد بدأت في التكوّن والتعقيد، لكنها لا تزال غير ناضجة كفاية لإدارتها بشكل صحي. فإذا لم تجد الطفلة بيئة مسموحًا فيها بالتعبير الآمن عن الغضب والحزن، فقد تميل إلى الكبت العاطفي (Emotional Suppression) الذي يؤدي بدوره إلى توتر عضلي في الفك والرقبة والجسد.

 

وقد يكون جزّ الأسنان عند الغضب محاولة من الجسم لتفريغ هذا التوتر عبر عضلات الفك، بما يُعرف بـالتفريغ النفسي الجسدي، وهذه آلية دفاعية لا إرادية.

 

ثانيًا: بالنسبة لمخاوك كون هذا التصرف يعد أمرًا خطيرًا أم لا:

 

فالأمر ليس خطيرًا في ظاهره، لكنه ناقوس إنذار مهم بأن الطفلة لا تجد الوسيلة الصحية للتعبير، وإن لم نساعدها اليوم، فقد تتطوّر هذه المشاعر لاحقًا إلى ما يُعرف في علم النفس التربوي بـSilent Burnout ، أي الاحتراق العاطفي الصامت، والذي يظهر في المراهقة في صور انسحاب، أو قلق، أو حتى اضطرابات نفسية.

 

ثالثًا: وسأشرح لك أخي الفاضل كيف تتعامل معها كأب:

 

1- اسمح لها بالغضب الصحي (Allow Healthy Anger)، فالغضب يا عزيزي ليس سلوكًا سلبيًّا في ذاته، بل هو طاقة انفعالية إن أُحسن توجيهها. شجّعها على التعبير بالكلام لا بالكتمان. قل لها: "أنا شايف إنك زعلانة، تحبي تحكيلي؟"، وكرر هذا النمط حتى تشعر بالأمان.

 

2- اجعلها تتعرّف على مشاعرها، فكثير من الأطفال لا يعرفون كيف يُسمّون ما يشعرون به. استخدم معها ما يُعرف بـ Feeling Vocabulary أو قاموس المشاعر. مثلًا: "هل أنتِ غاضبة؟ مستاءة؟ محبطة؟". هذا يُساعد في بناءEmotional Awareness ، أي الوعي العاطفي.

 

3- مارس معها تمارين التفريغ، مثل: الرسم الحر، التلوين، تمارين التنفس، أو حتى اللعب بالرمل أو المعجون؛ فهي وسائل علاجية تُستخدم فيما يُعرف بـPlay Therapy، وهي فعالة جدًّا مع الأطفال في مثل عمرها.

 

4- ومن الضرورى جدًّا أن تنتبه لتجنّب التوبيخ وقت الغضب؛ فلا تُعلّق على سلوك جزّ الأسنان أمام أحد، ولا تسخر منه، بل تجاهله في لحظته، وتعامل معه لاحقًا بهدوء. فكلما شعر الطفل بالخجل من مشاعره، زاد في كبتها.. وكلما شعر أنه يفعل ما يلفت انتباه المقربين حد القلق، تمسك بعادته السيئة.

 

٥- حاول أن تقضي معها وقتًا خاصًّا  (One-on-One Time)ولو لربع ساعة يوميًّا، فهذا يُعزز الأمان النفسي، ويزيد قدرتها على البوح. فالأبنة التي تسمع من أبيها "أنا بحبك وأهتم بيك" بانتظام، تشعر أن لها حق التعبير دون خوف.

 

٦- قدّم لها نموذجًا متزن انفعليا من خلالك، عبّر أنت عن مشاعرك أمامها بصوت هادئ: "أنا كنت متضايق شوية بس أخدت نَفَس وهدأت"، فهذا يُعلّمها مهارات التكيّف السوي.

 

رابعًا: تذكر أن ديننا الحنيف خير معلم، حيث نجد رسول الله ﷺ يُوصي بالغضب الحلال، ويقول: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». علّمها أن الغضب لا يعني فقدان السيطرة، بل هو اختبار للقوة الداخلية، وأن الحِلم من صفات الأنبياء.

 

* همسة أخيرة للأب الحنون:

 

ابنتك -يا عزيزي- لا تعاني من مشكلة، بل تحمل رسالة غير منطوقة: "أريد أن أُفهم، لا أن أُسكت"، وأنت – بحبك ووعيك – أقرب من يستطيع أن يُفك شفرة هذه الرسالة.

 

هي تحتاج فقط إلى من يأذن لها أن تكون "إنسانة صغيرة" بمشاعرها، غضبها، وحقها في التعبير دون لوم؛ فامنحها هذا الأمان، وستجد أن كل ما يقلقك اليوم، سيكون غدًا سبب فخرك بها.

الرابط المختصر :