الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : الأطفال
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
15 - رقم الاستشارة : 2006
19/05/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا جدة لحفيدة تبلغ من العمر تسع سنوات، وهي ابنة ابني الوحيد. أعترف أنني أحبها حبًا يفوق الوصف، وأتمنى أن تشعر بهذا الحب وتبادله، ولكن للأسف أشعر بأنها تنفر مني، وتنظر لي بنفس النظرة الجافة التي تنظر بها إليّ والدتها – زوجة ابني.
أحاول دائمًا أن أُظهر لحفيدتي الحنان، أشتري لها ما تحب، وأعدّ لها ما لذّ وطاب من الطعام، وأخصص لها الهدايا والمفاجآت، لكنها في الغالب تتعامل معي بجفاء أو تحفظ، وكأن بينها وبيني حجابًا غير مرئي.
لقد بدأت أتألم نفسيًا من هذا الجفاء، وأشعر أحيانًا أنني غير مرغوبة، رغم أنني لا أتدخل في تربية ابني لها، وأحرص على ألا أزعج أمها أو أفرض رأيي. ولكن لا أدري إن كانت الصغيرة قد تأثرت بكلام أمها عني أم أنني أرتكب أخطاء دون أن أدري.
أتمنى أن تساعديني، فكل ما أريده هو أن أقترب منها دون أن أُشعرها بالضغط، وأن تشعر هي بحناني وصدقي في حبها.. فكيف أستميل قلبها؟
وجزاكِ الله عني خير الجزاء.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أمي العزيزة،
أشكركِ أولًا على صدقكِ وشفافيتكِ، وأُقدّر ألمكِ الإنساني العميق، فقد لامستِ بتجربتكِ وترًا حساسًا في واقع كثير من الجدات الحنونات، اللاتي يشعرن بالإقصاء العاطفي، رغم ما يقدمنه من محبة وعطاء.
اسمحي لي أن أبدأ معكِ من القاعدة الذهبية في علم النفس التربوي الأسري:
"العلاقة التربوية الصحية تُبنى على القَبول غير المشروط، والتواصل العاطفي المتزن.. وليس فقط على العطاء المادي أو العطف الظاهري."
وحين نقول "غير المشروط"، فإننا نعني بذلك الحب الصادق الذي يُقدَّم دون انتظار مقابل، ودون توقّع استجابات فورية.
يا حبيبة القلب، الطفل في هذه المرحلة العمرية (9 سنوات) يمرّ بما يُعرف بـالمرحلة الوسطى من الطفولة (Middle Childhood)، حيث تبدأ ملامح شخصيته المستقلة في التشكل، ويزداد وعيه الاجتماعي، ويصبح أكثر حساسية تجاه العلاقات والانفعالات غير المباشرة.
ومن هنا، فإن مشاعر حفيدتكِ قد لا تكون نابعة من موقف شخصي تجاهكِ، بل من صورة ذهنية تشكّلت لديها من خلال النقل الانفعالي السلبي (Negative Emotional Transference)، والذي قد يحدث دون وعي منها، إن كانت قد تأثرت – حتى بشكل غير مباشر – بمشاعر والدتها -هداها الله- تجاهكِ.
ولكي نكون منصفين، فإن الطفل لا يُلام على تلك التمثلات النفسية، إذ إننا نعلم من علم النفس الأسري أن الطفل مرآة الانفعالات البيئية؛ فما يعيش فيه من مشاعر، يُصبح جزءًا من بنيته العاطفية حتى دون فهم أو تحليل.
وهنا، أطمئنكِ بأن قلب الطفلة لم يُغلق، بل هو فقط متحفّظ، وربما يفتقر إلى شعور الأمان الهادئ في العلاقة، وهو ما يُعرف في نظريات التعلق بـ"الارتباط العاطفي الآمن" (Secure Attachment)، الذي يقوم على التكرار الهادئ والحنون لسلوكيات الحب، دون لهفة مفرطة أو لوم باطن.
* ونصائحي لكِ أمي الحبيبة:
1- اجعلي العلاقة بصرية وعاطفية أكثر منها مادية، لا تركّزي فقط على الهدايا والمفاجآت، بل على القصص المشتركة، والضحكات، والأنشطة التي تشتركان فيها؛ فالمشاركة الفعالة في لحظات بسيطة تُبنى بها جسور من القرب.
2- اخفضي معها سقف التوقعات.. حيث إن التعلق القلبي لا يُبنى بضغطة زر، بل هو عملية تراكمية، تحتاج لصبر وهدوء دون استعجال أو ضغط. واعلمي أن الإفراط في المحاولة قد يُشعر الطفل بالقلق العاطفي؛ ما يجعله ينفر لا إراديًّا.
3- ثم تجنّبي مقارنة العلاقة بعلاقات أخرى، أو بتجاربكِ السابقة مع ابنكِ مثلًا؛ لأن كل علاقة تنمو بطريقتها الخاصة، حسب ما نُسميه في علم النفس "الفروق الفردية في الاستجابة العاطفية".
4- حاولي أن تقرّبي من الأم بحكمة ورفق، وإن كان بينكما جفاء، فحاولي تخفيف حدته ولو بالصمت النبيل؛ لأن الطفلة تلتقط التوترات بينكما بحسها الفطري، وهذا ما يسميه العلماء "الإدراك اللاشعوري للتوتر العائلي".
وقد قال النبي ﷺ: "أَفشوا السلام، وأَطْعِموا الطعام، وصِلوا الأرحام...". فالإحسان إلى الأم، وإن كانت غير قريبة منكِ، هو في ذاته طريق إلى قلب الصغيرة.
٥- ادعي لها كثيرًا؛ فالدعاء جسر المحبة الذي لا يُرى. قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا﴾.. فالدعاء بظهر الغيب للغير يطهر القلب، ويزيد الألفة.
٦- ثم تذكّري يا أمي الغالية أن العطاء الصامت أبلغ من الكلام، لا تقولي لها دومًا "أنا أحبكِ" وتنتظرين الرد، بل عيشي الحب بسلوككِ: بصبركِ، وتقبّلكِ، وابتسامتكِ، واحتضانكِ حين تسمح اللحظة.
وأخيرًا، تذكري أن الله لا يُضيع أجر المحسنين، وقد قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ﴾، فربما يأتيكِ الفرج من حيث لا تحتسبين، وتجدين تلك الصغيرة التي كنتِ تشتاقين لقربها، هي أول من يقرّب كرسيكِ يومًا لتسمعكِ وتحكي لكِ قصصها.
* همسة أخيرة:
ثقي أيها الجدة الحنون أن الألم الذي في قلبكِ دليل طهركِ ونيّتك الطيبة، ولكن تذكّري دائمًا أن القلوب لا تُفتح بالمفاتيح الحديدية، بل بمفاتيح الصبر، والقدوة، والدعاء، والتواصل الحنون الهادئ.
وفقكِ الله، وأقرّ عينكِ بابنك وحفيدتكِ، وأدام لكِ قلبًا لا يعرف إلا الحب والعطاء.