تاب ولكنه لا يستطيع رد الحقوق لأصحابها.. هل توبته مُعلَّقة؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الأخلاق والمعاملات
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 85
  • رقم الاستشارة : 3503
07/12/2025

كنت أعمل في التجارة وأخذت أموالًا بغير حق في شبابي. الآن تبت وندمت، لكني لا أملك المال لأرده، وبعض أصحاب الحقوق ماتوا أو سافروا ولا أعرف طريقهم.

أشعر بأن توبتي ناقصة، وبأن الله لن يقبلني ما دامت هذه المظالم في رقبتي.

هل يغفر الله حقوق العباد إذا عجز العبد عن أدائها؟ أم أن مصيري النار لا محالة؟

الإجابة 07/12/2025

مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكرك على تواصلك معنا، وأسأل الله أن يفرِّج همك، ويقضي دينك، ويشرح صدرك، ويتقبل توبتك، وأن يبدل سيئاتك حسنات، وبعد...

 

أخي الفاضل، أطمئنك أولًا بأن الألم الذي تشعر به، والخوف من لقاء الله بحقوق العباد، هو دليل إيمانك الصادق، فالمنافق لا يبالي، والميت لا يتألم، أما أنت فحيُّ القلب بفضل الله.

 

اليأس من رحمة الله بابُ الشيطان:

 

قبل أن نتحدث عن الحقوق، يجب أن نعالج شعورك بأن «توبتك ناقصة» أو أن «مصيرك النار». هذا الشعور يا أخي هو مدخل من مداخل الشيطان ليقعدك عن العمل ويصيبك بالقنوط. فاعلم يقينًا أن الله يفرح بتوبة عبده، مهما كان ذنبه. قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].

 

فالتوبة تجُبُّ ما قبلها، والندم الذي تشعر به هو ركن التوبة الأعظم، فقد قال النبي ﷺ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» [رواه ابن ماجة].

 

حكم العجز عن أداء حقوق العباد:

 

أنت الآن أمام شقين: حق الله (وقد تبت منه بالندم والاستغفار)، وحق العباد (الأموال التي تعجز عن أدائها). وشريعة الله واقعية ورحيمة، تفرِّق بين «الممتنع المماطل» وبين «العاجز النادم».

 

- العجز المادي (الإعسار):

 

إذا كنت عاجزًا تمامًا عن السداد الآن، فإن الله لا يكلِّف نفسًا إلا وسعها. الواجب عليك هو عقد العزم الصادق على السداد متى ما تيسر لك ذلك.

 

وقد بشر النبي ﷺ من أخذ أموال الناس وهو ينوي أداءها بالعون من الله، بل وبالأداء عنه إن مات عاجزًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي ﷺ قال: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ» [رواه البخاري].

 

ومعنى «أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ» له صورتان: في الدنيا: بأن ييسر له الرزق حتى يسدد. وفي الآخرة: إن مات ولم يستطع السداد، فإن الله يُرضي الخصوم عنه يوم القيامة بما يشاء من فضله، حتى يعفوا عنه.

 

- غياب أصحاب الحقوق أو موتهم:

 

ذكرتَ يا أخي أن بعض من لهم حقوق عندك مات أو سافر ولا تعرف طريقهم. والحكم الشرعي هنا -كما بيَّن العلماء- أن الحق ينتقل إلى ورثتهم. يجب عليك البحث والتحري بقدر استطاعتك عن ورثتهم لتعطيهم الحق. وإذا يئست من الوصول إليهم أو لورثتهم فهنا تخرج هذه الأموال (بنية التخلص من المال الحرام ورد المظالم) على شكل صدقة جارية أو أعمال خيرية بنية أن يكون ثوابها لأصحابها الأصليين.

 

هل يغفر الله حقوق العباد للعاجز؟

 

تسأل: هل مصيري النار لا محالة؟ والجواب: حاشا لله أن يُعذِّب عبدًا لجأ إليه صادقًا، عاجزًا عن الحيلة.

 

يا أخي، إن حقوق العباد مبنية على «المشاحة» (أي طلب الحق)، وحقوق الله مبنية على «المسامحة». ولكن، الله -سبحانه- هو الديَّان يوم القيامة، وهو الحكم العدل، وهو أيضًا الوهاب الكريم. فالله -سبحانه وتعالى- من كرمه يوم القيامة -كما روي في الحديث- إذا علم صدق توبتك وعجزك، فإنه يعرض على صاحب الحق من العطايا والدرجات في الجنة ما يذهله، حتى يرضى ويتنازل عن حقه لك.

 

إذن، الأمر مرهون بصدقك، لا بامتلاكك المال الآن.

 

ماذا تفعل الآن؟

 

حتى يطمئن قلبك وتكمل توبتك، أنصحك بالخطوات التالية:

 

1- توثيق الحقوق: اكتب وصية شرعية واضحة، تذكر فيها ما عليك من أموال وحقوق للناس، حتى إذا متَّ، ومَنَّ الله على ورثتك بمال، أدوه عنك. هذا يثبت صدق نيتك أمام الله.

 

2- الاستغفار والدعاء: أكثر من الاستغفار لأصحاب الحقوق، وادعُ الله لهم بالرحمة والبركة. اجعل لهم نصيبًا من دعائك في سجودك، فهذا نوع من التعويض المعنوي الذي يخفف المظلمة.

 

3- الصدقة بما تيسر: ما تستطيعه ولو كان قليلًا، تصدق به بنية السداد عنهم (عمن لا تعرف مكانه)، ولو مبلغًا زهيدًا كل شهر.

 

4- الاجتهاد في السعي: اسعَ في الأرض واطلب الرزق بنية السداد، واستعن بالله.

 

وختامًا أخي الحبيب، اطرد عنك وساوس الشيطان بأنك من أهل النار. أنت تائب، والتائب حبيب الرحمن. يقول تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ﴾ [طه: 82].

 

فما دمتَ نادمًا، وعازمًا على السداد، وتفعل ما في وسعك (من بحث عنهم أو نية الصدقة عنهم)، فأنت في كنف الله ورعايته، والله أكرم من أن يضيعك.

 

أسأل الله أن يغنيك بفضله عمن سواه، ويطهر مالك وقلبك.

 

روابط ذات صلة:

توبة المسلم من حقوق العباد.. حكمها وكيفيتها

الرابط المختصر :