الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
223 - رقم الاستشارة : 964
13/02/2025
السلام عليكم ورحمة الله، وكل عام وأنتم بخير. رمضان الكريم على الأبواب، ويؤلمني أني كل عام أضع تصورا مثاليا لحياتي في هذا الشهر من حيث القيام بالعبادات على أكمل وجه من صلاة جماعة وصلاة التراويح والسنن الراتبة والذكر وختم القرآن عدة مرات.
ولكن مع الأسف تنهدم هذه الصورة بسبب انشغالي في عملي وعدم قدرتي على القيام بالتوفيق بينه وبين هذه العبادات هذا غير الالتزامات الأسرية والاجتماعية، وأجد جسمي غير قادر مثلا على السهر وصلاة التراويح والقيام ثم القيام للعمل مبكرا في الصباح، وأعود مجددا فلا أصلي الليلة التي تليها وهكذا!
كيف أخرج من هذه الدائرة؟ وكيف أستطيع أن أعيش رمضان القادم بصورة مثالية تجمع بين عملي الدنيوي والتزاماتي الأسرية والاجتماعية وبين أداء العبادات والشعائر وفضائل الأعمال من سنن وتراويح وذكر وتلاوة؟
مع الشكر، وتقبل الله منا ومنكم.
أخي الحبيب، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وكل عام وأنت إلى الله أقرب، وأسأل الله أن يبلغك وإيانا رمضان، ويعيننا وإياك فيه على طاعته، ويتقبل منا ومنك صالح الأعمال، وبعد...
فإني أشعر تمامًا بما تشعر به، وهو مشترك لدى كثيرين ممن يطمحون لاستغلال هذا الشهر الفضيل بأفضل صورة، لكنهم يجدون أنفسهم في صراع بين متطلبات الحياة والتزاماتهم الدينية. وأحب –أولًا- أن أطمئنك بأن الله –تعالى- لا يكلِّف نفسًا إلا وسعها، وأن المطلوب منك ليس الكمال المطلق، وإنما الإحسان والاجتهاد وفق استطاعتك.
وسأناقش معك ما طرحت وفق عدة نقاط:
أولًا: تصحيح مفهومنا عن «رمضان المثالي»:
كثيرون يظنون أن «رمضان المثالي» هو الذي لا ينشغل فيه الإنسان بأي شيء سوى العبادة التقليدية المحضة، فيختم القرآن مرات عدة، ويقوم الليل كله، ويؤدي كل السنن بلا تقصير. لكن في الحقيقة، رمضان المثالي هو رمضان الذي يؤتي معك الثمرة التي فرض الله -عز وجل- صيامه عليك من أجلها، ألا وهي «التقوى»؛ حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]. وقال نبيه ﷺ: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» [رواه البخاري].
إذن، رمضان المثالي هو الذي تعيشه بقلب مقبل على الله، حتى وأنت في عملك، وأنت مع أسرتك، وأنت تقضي احتياجاتك اليومية. فقد أقر النبي ﷺ نصيحة سلمان لأبي الدرداء –رضي الله عنهما- إذ قال له: «إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ» [رواه البخاري].
فما نحتاج إليه في رمضان هو تحقيق التوازن بين العبادة والعمل والأسرة، بحيث يكون لكل جانب حقه، مع استشعار روحانية رمضان في كل لحظة من لحظاته.
ثانيًا: التخطيط الواقعي لرمضان دون مبالغة:
لتحقيق التوازن في رمضان، لا بد من وضع خطة عملية تأخذ في الاعتبار قدراتك الواقعية، بحيث تنظم ساعات يومك وفق الأولويات:
• أصل كل عمل النية، فاجعل نيتك خالصة لله في كل عمل، ليكون عبادة يعينك الله عليها وتؤجر بها.
• صلاة الفريضة في وقتها بخشوع هي أعظم ما تتقرب به إلى الله، فلا تهملها أبدًا. قال الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة: 238]. وقال -جل وعلا- في الحديث القدسي: «ما تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي بشَيءٍ أحَبَّ إلَيَّ ممَّا افْتَرَضْتُ عليه» [رواه البخاري].
• لا بأس أن تصلي التراويح (بقدر ما تستطيع) جماعة في المسجد، أو مع أهل بيتك، أو وحدك، فإن النبي ﷺ قال: «مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ» [رواه البخاري]. وإن كان وقت التراويح بعد العشاء مباشرة مرهقًا لك، فبإمكانك أن ترتاح وتنام بعد صلاة العشاء، وتصليها في أي وقت من الليل شئت. ولا تحرم نفسك من أجرها ولو بالقليل. وحاول أن تجعل جزءًا من وقتك قبل الفجر للقيام ولو بركعتين، فالبركة في السَّحَر.
• اجعل لك وردًا يوميًّا من القرآن، ولو كان صفحة أو صفحتين؛ فالمداومة على القليل خير من الانقطاع بعد الكثير. واستثمر فترة ما بعد الفجر في ذلك، فهي من أفضل الأوقات لاستيعاب التلاوة دون انشغال.
• إياك أن تتخذ الصيام عذرًا للتكاسل أو التقصير أو الإهمال في عملك. أتقن عملك واجعله عبادة تنال بها الأجر والبركة، فالإسلام لم يشرّع الصيام ليكون سببًا في تعطيل الإنتاج أو الإخلال بالمسؤوليات.
• أثناء دوامك في العمل، اجعل لسانك دائمًا رطبًا بذكر الله، كالتسبيح والاستغفار، قال النبي ﷺ: «سَبَقَ المُفَرِّدُونَ»، قالوا: وَما المُفَرِّدُونَ يا رَسولَ اللهِ؟ قالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ» [رواه مسلم].
• اغتنم لحظات الانتظار، كالوقت بين الأذان والإقامة، أو عند القيادة، أو قبل الإفطار، بالدعاء والذكر.
ثالثًا: العمل الصالح بمفهومه الشامل:
عمل الخير في رمضان لا يقتصر على العبادات المحضة الفردية (صيام، صلاة، تلاوة، ذكر)، بل إن أعمال الخير المتعدي أثرها إلى الآخرين يكون عليها أجر وفير، فلا تحرم نفسك منه، ولا تحصر تصورك عن العمل الصالح في المظاهر المعتادة للعبادة في رمضان، وقد قال النبي ﷺ مثلًا: «السَّاعِي علَى الأرْمَلَةِ والمِسْكِينِ كالْمُجاهِدِ في سَبيلِ اللَّهِ، أوِ القائِمِ اللَّيْلَ الصَّائِمِ النَّهارَ» [رواه البخاري]. فلو استطعت أن تفرِّج كربة عن مسلم، أو تقضي له حاجة، أو تصلح بين متخاصمين، أو تصل رحمًا مقطوعة، أو تفطِّر صائمًا، فاعلم أن أجرك عند الله عظيم.
فالصدقة -مثلًا- باب عظيم من أبواب الخير والأجر، وخصوصًا في رمضان، فقد قال ابن عباس، رضي الله عنهما: «كانَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ» [رواه البخاري]. وقد عدَّ النبي ﷺ الصدقة مع الصوم وقيام الليل ضمن أبواب الخير، فقال: «ألا أدلُّكَ على أبوابِ الخيرِ: الصَّومُ جُنَّةٌ، والصَّدَقةُ تُطفي الخطيئةَ كما يُطفئُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجلِ من جوفِ اللَّيلِ» [رواه الترمذي].
كما أن عمل القلوب لا يقل عن عمل الجوارح أجرًا وثوابًا، ومنها الصبر على الجوع والعطش، والصبر على الناس، وعلى ضغوط الحياة، وإحسان الظن، والرحمة، والإيثار، والتسامح، والعفو.
هذا إلى جانب حفظ جوارحك كلها عن المعصية، تحققًا بأدب صيام الخاصة من المؤمنين، مثل: غض البصر، وحفظ اللسان، وكف الأذى، وكظم الغيظ، والحلم، والرفق، واللين.
رابعًا: العناية بالصحة والراحة الجسدية:
الجسد أمانة، وإنهاك النفس في السهر من دون تنظيم سيؤثر في قدرتك على العبادة. حاول أن:
• تأخذ قسطًا كافيًا من النوم، ولو بتوزيعه بين الليل والنهار.
• تتناول طعامًا صحيًّا خفيفًا في الإفطار والسحور ليمنحك طاقة دون ثقل.
• تمارس بعض التمارين الخفيفة لتنشط جسدك خلال النهار.
خامسًا: المرونة في التعامل مع الظروف:
من المهم أن تدرك أن الالتزامات الأسرية والاجتماعية هي جزء من العبادة، فإذا كنت تقوم بواجباتك العائلية بنيَّة صالحة، فإن ذلك يضاعف أجرك. فقد كان النبي ﷺ في خدمة أهله، وكان يتعامل مع الصحابة بواقعية في عباداتهم. فلا تضغط على نفسك فوق طاقتك، بل خذ بالأسباب الممكنة، وأحسن الظن بالله.
ختامًا أخي الحبيب، رمضان ليس سباقًا في عدد الختمات، ولا في كثرة الركعات فقط، بل هو سباق للقلوب، لتتزكى بالتقوى، وزيادة القرب من الله، والإخلاص في العمل. فاجتهد بما تستطيع، واستعن بالله، وابذل وسعك، وكن على يقين بأن الله ينظر إلى قلبك قبل أعمالك.
أسأل الله أن يعينك ويوفقك، ويجعل رمضان هذا العام نقطة تحول لك في علاقتك مع الله، وأن يكتب لك فيه العتق من النيران، والفوز بالجنة. ولا تنسَ أن تسأل الله دائمًا التيسير.
رمضان مبارك، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.