الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : فقهية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
244 - رقم الاستشارة : 594
07/01/2025
نحن في بلاد إفريقية نائية ، وقد أفتانا بعض طلبة العلم بعدم جواز استعمال اللقاح المستعمل ضد شلل الأطفال وغيره لأنه يدخل فيها النجاسات كشحوم الخنزير والميتة، ولما امتنعنا عن هذا مات أطفالنا لأنه لا يوجد بديل فماذا نفعل؟ أفتونا مأجورين.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فما أفتاكم به بعض طلبة العلم، أو المنتسبين إليه خطأ، وحرام شرعًا، ومثلهم كمثل بعض الصحابة الذين أفتوا صاحبهم الذي شج في رأسه بعدم جواز التيمم بحجة وجود الماء، فلما اغتسل الرجل مات، فلما علم النبي ﷺ بهذا، قال: "قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال".
وإن كان الصحابة رضي الله عنهم معذرون بجهلهم حيث كان الانشغال بالجهاد في سبيل الله، وأن التشريع لم يكن قد اكتمل، فعرفوا شيئًا وغابت عنهم أشياء فلا عذر لهؤلاء وقد يسر الله التواصل مع العلماء ومتابعة المجامع الفقهي الدولية والمحلية في مثل هذه القضايا المستحدثة.
والفتوى المعتمدة في هذه المسألة هو جواز هذه اللقاحات والأمصال تأسيسًا على قضية استحالة النجاسة، أو تحولها، وقد سبق لنا نشر فتوى عن هذه المسألة يمكنكم مطالعتها هنا، وتأسيسًا على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات، وأن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث.
وقد أجاب المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء عن اللقاح المستعمل في تطعيم الأطفال ضد شلل الأطفال الذي يُستحضر بفيروس المسبب له على مزرعة نسيجية أي مؤلفة من خلايا متكاثرة بحيث تشكل نسيجًا خلويًّا تكون فيه الخلايا متلاصقة. وحتى ينجح الزرع، لا بد من فكّ هذه الخلايا بعضها على بعض، ويتم هذا التفكيك باستعمال خميرة (أنزيم) تدعى (التريبسين) تؤخذ من الخنزير.
نظر المجلس الأوربي للبحوث والإفتاء في الموضوع أعلاه، وبعد التدقيق في مقاصد الشريعة، ومآلاتها والقواعد الفقهية وأقوال الفقهاء فيما عُفي عنه قرر ما يلي:
أولا: إن استعمال هذا الدواء السائل قد ثبتت فائدته طبيًّا وأنه يؤدي إلى تحصين الأطفال ووقايتهم من الشلل بإذن الله تعالى، كما أنه لا يوجد له بديل آخر إلى الآن، وبناء على ذلك فاستعماله في المداواة والوقاية جائز لما يترتب على منع استعماله من أضرار كبيرة، فأبواب الفقه واسعة في العفو عن النجاسات - على القول بنجاسة هذا السائل - وخاصة أن هذه النجاسة مستهلكة في المكاثرة والغسل، كما أن هذه الحالة تدخل في باب الضرورات أو الحاجيات التي تنزل منزلة الضرورة، وأن من المعلوم أن من أهم مقاصد الشريعة هو تحقيق المصالح والمنافع ودرء المفاسد والمضار.
ثانيًا: يوصي المجلس أئمة المسلمين ومسئولي مراكزهم أن لا يتشددوا في مثل هذه الأمور الاجتهادية التي تحقق مصالح معتبرة لأبناء المسلمين ما دامت لا تتعارض مع النصوص القطعية.
وقد أصدر مجمع الفقه الدولي بيانًا مطولاً بخصوص هذه الحادثة نذكر هنا أهم فقراته لمن أراد الإفادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
إن مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي انطلاقًا من موقعه الإسلامي باعتباره مرجعية فقهية للأمة الإسلامية، ومن إحساسه بواجب العلماء الناصحين إثر تلقيه تقارير عن تحقيق حملات التطعيم نجاحًا في البلدان الإسلامية في إيقاف انتشار مرض شلل الأطفال فيما عدا بعض الدول مثل باكستان ونيجيريا وأفغانستان، ومع تزامن الحملات الجديدة التي أطلقتها حكومات هذه البلدان يجدد دعوته للآباء والأمهات ولأولياء أمور الأطفال في جميع أنحاء المعمورة إلى الاستجابة لتلك الحملات والمبادرة بتطعيم أبنائهم وبناتهم باللقاحات المضادة لمرض شلل الأطفال، حيث قد ثبتت أهمية هذا التطعيم في تجنيبهم -بفضل من الله ونعمة- شرور هذا المرض العضال الذي لا دواء له، بل ويتسبب في عاهات وإعاقات دائمة تلازم المريض طول حياته وتقطف بهجتها، وهو واجب شرعي وأمانة في أعناق أولياء أمور الأطفال يتحملون وزر التفريط فيه.
وقد ثبت لدى الجهات المعنية في الدول الإسلامية خلو هذه اللقاحات من أية منتجات خنزيرية، كما قد أفاد من يوثق فيهم بعدم احتوائها على ما يسبب العقم لدى البنات في مستقبل حياتهن، وقد اتفقت دول العالم بما فيها الدول الإسلامية على إعطاء هذه اللقاحات للمواليد والأطفال دون ثبوت أضرار لها.
وإن هذا الواجب تجاه الوالدين وأولياء الأمور يبدأ من منذ اليوم الأول لولادة الطفل، ويستمر حتى عمر ست سنوات، مع الالتزام التام بالمواعيد المقررة في جداول التطعيم بدقة، ضمانًا لتحقيق الفائدة المرجوة من التطعيم. هذا إضافة إلى تطعيمات ولقاحات أخرى تعطى للأطفال كالتطعيم ضد مرض السل (الدرن) والثلاثي البكتيري "الديفتريا، التيتانوس، السعال الديكي"، والتطعيم ضد الالتهاب الكبدي الوبائي، والتطعيم ضد مرض الحصبة، وقد كان لهذه التطعيمات وغيرها أثر بفضل من الله ومنة في زوال أوبئة وأمراض معدية كان البشر يعانون منها سابقا، كالطاعون والجدري....
وقد أجاز مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي لولي الأمر ممثلا في الدولة والحكومة -باعتبار أن أوامرها منوطة بالمصلحة-إلزام الناس بالتحصينات الوقائية لما فيها من صد للأوبئة ومنع لانتشارها، فقد ورد في الفقرة ب، البند ثالثًا من قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم: 67 (5/7) عام 1412هـ الموافق 1992م، بشأن العلاج الطبي ما نصه: "يجوز لولي الأمر الإلزام بالتداوي في بعض الأحوال، كالأمراض المعدية والتحصينات الوقائية".
وإن علماء مجمع الفقه الإسلامي الدولي وفقهاءه كافة، الممثلين لدولهم الإسلامية يتطلعون جميعًا أن يروا أجيال الأمة الإسلامية وناشئتها يتمتعون بما امتن الله عز وجل عليهم بأحسن تقويم، وبصحة دائمة وعافية تامة، يمضون نحو مستقبل واعد وعاقبة هنيئة، فكلما كان الأطفال -ذكورًا وإناثًا- أصحاء كان مستقبل الأمة أفضل.
ويوصي مجمع الفقه الإسلامي الدولي دول العالم كافة باعتبار هذه القضية قضية إنسانية من الدرجة الأولى، ويوصي الدول الإسلامية خاصة وسائر منظماتها باعتبار هذه القضية قضية أمة توضع في أولى أولوياتها وتزيل من أمامها كل العوائق وتذلل لها كل الصعاب.
وفي هذا الصدد تستنكر أمانة مجمع الفقه الإسلامي الدولي الفتاوى التي صدرت من قبل بعض من جانبهم الصواب بتحريم التطعيم معتمدين على معلومات واهية وأفكار خاطئة، دون خشية من العواقب التي تترتب على فتاويهم من تعرض الأطفال لهذا المرض الشنيع دون ذنب إلا أن والديهم استجابوا لفتاواهم.
ويوصي المجمع خطباء المساجد وأئمتها والدعاة إلى الله عز وجل والمرشدين والمعلمين أن يدعوا الناس في خطبهم للاستجابة لحملات التطعيم في فترات متلاحقة، وخصوصا عند وجود حملات التطعيم، وأن يعملوا على محاربة تلك الفتاوى الشاذة التي تفتي بتحريم تلك اللقاحات والتطعيمات أو تثير الشكوك والبلبلة تجاهها دون سند أو دليل.
ويدين مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشدة إقدام بعض المجرمين على قتل عدد من العاملين في فرق التطعيم ضد شلل الأطفال وغيرها من المجالات الصحية ممن لا ذنب لهم واختطاف بعضهم رهائن واستغلالهم سلعًا يتفاوضون في معاوضتها بمطالب خاصة أو عامة، وهو ما قد حرمته الشريعة الإسلامية وسائر الشرائع والمواثيق والقوانين الدولية.
كما يستنكر المجمع في الوقت نفسه استغلال حملات التطعيم في خدمة أية مصالح أيا كانت -معلنة أو تجسسية- لا علاقة لها بالطب من قبل الداعمين لبعض حملات التطعيم؛ لمناقضة ذلك للمواثيق والدساتير والأخلاقيات الطبية.
لقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي الدولي عام 1430هـ الموافق 2009م بيانًا مفصلاً للتشجيع على التطعيم ضد شلل الأطفال، تضمن أحكامًا وأدلة شرعية بينت وجوب التطعيم، وهو يؤكد الآن مجددًا على ما ورد فيه، ويتلخص فيما يلي:
* يجب على المرء أن يصون جسده وأجساد من يعولهم ويحافظ على سلامتها ويجنبها كل ما يضر بها قدر الإمكان، لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195)، والمحافظة على سلامة الأبدان من كل ما يعرضها للسوء من آكد الواجبات في الشريعة الإسلامية، وتقرر ذلك قاعدة منع الضرر والإضرار والتي هي نص حديث نبوي عن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: "لا ضرر ولا ضرار" (أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والحاكم في المستدرك، وغيرهما).
* حمّل الإسلام الآباء والأمهات مسؤولية عظيمة في المحافظة على أبنائهم وبناتهم ورعايتهم في كل شؤونهم ومنها: شأنهم الصحي، وخصوصًا من لم يبلغ الحلم منهم، ووردت في ذلك أحاديث منها قوله ﷺ: "كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها" (أخرجه البخاري، ومسلم)، وقوله ﷺ: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول" (المستدرك على الصحيحين).
* امتن الله عز وجل على الإنسان بأن خلقه في أحسن تقويم، قال عز وجل: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4). وامتدح عز وجل نبيه زكريا عليه السلام حين سأله ذرية طيبة، والدعاء بالذرية الطيبة يشمل العافية والسلامة في الجسم، قال عز وجل: ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾ [آل عمران: 38). ورغّب الإسلام المرء في ابتغاء أسباب القوة وبما ينفعه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك…". (أخرجه مسلم في صحيحه، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة).
* وقد وردت في الحث على التداوي والأخذ بأسباب الشفاء والعلاج، أحاديث منها قوله ﷺ: "تداووا فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم" (أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد).
* يعتبر تطعيم الأطفال ضد مرض الشلل علاجاً وقائيًّا من المرض الذي يخشى منه قبل وقوعه؛ وهو ما يسمى في عصرنا الحاضر بالطب الوقائي، وقد أقر الإسلام هذا المبدأ، فقد ورد في ذلك عن النبي ﷺ قوله: "من تصبح بسبع تمرات من تمر المدينة لم يضره سحر ولا سم" (أخرجه البخاري، باب الدواء بالعجوة). كما أقره بما ورد من قواعد الحجر الصحي في مرض الطاعون عن النبي ﷺ: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها" (أخرجه البخاري، باب ما يذكر في الطاعون).
* يدعو الإسلام إلى الاستفادة من كل بحث أو إنجاز علمي يسهل حياة الإنسان وييسرها على هذه الأرض.. فهو قد جاء لتحقيق خير الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة. قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 43)، وقال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)
* إن دفع الأمراض بالتطعيم لا ينافي التوكل؛ كما لا ينافيه دفع أدواء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوكل إلا بمباشرة الأسباب الظاهرة التي نصبها الله تعالى مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وقد يكون ترك التطعيم إذا ترتب عليه ضرر محرما. أ. هـ. ملخصًا.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
أمين مجمع الفقه الإسلامي الدولي
الأستاذ الدكتور أحمد خالد بابكر
والله تعالى أعلى وأعلم