الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : وساوس وشكوك
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
91 - رقم الاستشارة : 3502
06/12/2025
أدرس الفيزياء الكونية، ونظريات لنشأة الكون، مثل العشوائية والصدفة، وهذه النظريات أحيانًا تخلق ضبابًا حول إيماني بوجود الخالق المدبر.
أعيش صراعًا بين العلوم التي أدرسها وبين الآيات التي أقرؤها وعقيدتي التي بقلبي.
كيف نجمع بين دراسة العلم المادي وبين ثبات الإيمان في القلب؟
مرحبًا بك يا ولدي، وأشكر لك تواصلك معنا، وأسأل الله أن يملأ قلبك يقينًا، وعقلك نورًا، وأن يجعلك من الراسخين في العلم الذين يزدادون بالله معرفة كلما ازدادوا في خلقه تبصرًا، وبعد...
الشك المنهجي بوابة اليقين
بدايةً، أريدك أن تطمئن تمامًا؛ فما تشعر به من صراع داخلي ليس دليلًا على ضعف إيمانك، بل هو دليل على حياة عقلك وقلبك معًا. إن النفس التي لا تسأل ولا تقلق هي نفس راكدة، أما النفس الباحثة فهي التي ترتقي. لقد مر بهذا الممر الضيق كبار العارفين والعلماء، فكان عبورهم له سببًا في رسوخ إيمانهم، لا زواله.
إن الصراع بين ما تدرسه من نظريات مادية وبين نصوص الوحي هو صراع ظاهري ينشأ من زاوية النظر، لا من حقيقة الأمر، وسأحاول معك في السطور التالية إعادة ضبط هذه الزاوية.
العلم يفسر «كيف» والدين يفسر «مَن» و«لماذا»:
يا بني، إن إحدى أكبر مشكلاتنا في العصر الحديث هي الخلط بين وظيفة العلم المادي ووظيفة الإيمان. إن الفيزياء الكونية التي تدرسها بارعة جدًّا في «تفكيك الآلية» التي يدور بها الكون، فهي تخبرنا بدقة مذهلة عن القوانين التي تحكم حركة المجرات، وعن التفاعلات النووية داخل النجوم... إلخ. ولكن هذا العلم المادي يقف صامتًا تمامًا أمام سؤال: من وضع هذه القوانين؟ ولماذا وُجدت أصلًا؟
عندما تدرس نظرية «الانفجار العظيم» أو «التمدد الكوني»، فإنك تدرس «سُنَّة الله في الخلق». إن النظريات الفيزيائية لا تصنع الكون؛ بل هي مجرد محاولة لوصف كيفية عمل الكون. تخيل أن شخصًا يدرس كيفية عمل محرك السيارة بدقة متناهية، هل معرفته بتفاصيل الاحتراق الداخلي وحركة التروس تعني أن «صانع السيارة» غير موجود؟ أم أن دقة المحرك تدل أكثر على عبقرية الصانع؟
يقول الله -تعالى- في وصف دقة صنعه: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: 88]. فكلما تعمقت في الدراسة والعلم، تعمقت في فهم «صنع الله المتقن».
خرافة الصدفة والعشوائية:
إن مصطلح «الصدفة» أو «العشوائية» في الفيزياء هو مجرد مصطلح يصف عجز العلماء عن التنبؤ الدقيق بمسار جزئي معين، أو يصف نظامًا ذا احتمالات واسعة، ولكنه لا يعني أبدًا «العبثية». إن ما يبدو عشوائيًّا في جزئياته، هو في غاية النظام في كلياته.
تأمل معي قصة العالم الذي ناظر الدهريين الذين ينكرون الخالق؛ إذ ضرب لهم مثلًا عقليًّا بسيطًا ولكنه عميق: سألهم عن سفينة محمَّلة بالبضائع، تمخر عباب البحر، وتواجه الأمواج العاتية، ثم ترسو في الميناء وتفرغ حمولتها وتنصرف، كل ذلك بلا ربان ولا ملاح! قالوا: هذا مستحيل عقلًا. فقال لهم: «فكيف بهذا العالم بأسره، بسمائه وأرضه، واختلاف أحواله، كيف يكون بلا صانع حافظ؟».
إذا كانت الفيزياء تخبرنا أن الثوابت الكونية لو تغيرت بمقدار ضئيل جدًّا لاستحال وجود الحياة، فهل تبقى هناك مساحة للصدفة؟ العلم الحديث يصرخ بوجود ضبط دقيق، وهذا الضبط هو الترجمة العلمية لاسم الله «الحكيم» واسمه «القيوم». يقول تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
والقدر هنا هو النظام، والقانون، والمقدار الدقيق الذي تدرسه أنت في الفيزياء.
ربنا إله الكون كله لا «إله الفجوات»:
يقع بعض الدارسين في خطأ «إله الفجوات»؛ أي أنهم يبحثون عن الله فيما يعجز العلم عن تفسيره فقط. فإذا فسر العلم ظاهرة المطر أو الجاذبية، شعروا أن دور الإله قد انتهى! وهذا خطأ فادح.
نحن لا نؤمن بالله لأنه يسد ثغرات جهلنا؛ بل نؤمن به لأنه هو الذي أقام نواميس ما نعلمه وما لا نعلمه.
والقرآن الكريم لم يطلب منا إغلاق عقولنا، بل أمرنا بالسير والبحث في كيفية البدء: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20].
لاحظ: «كيف بدأ»، وهذا هو صميم تخصصك. فدراستك هي استجابة لأمر إلهي، وليست خروجًا عنه.
الخشية نتاج العلم الحقيقي:
إن العلم الحقيقي هو الذي يتجاوز القشور والنظريات السطحية، فيورث صاحبه شعورًا بالضآلة أمام عظمة هذا الكون، وبالتالي أمام عظمة خالقه. والعالم الحقيقي هو الذي يدرك أن وراء هذا التناسق المذهل بين أجزاء الكون ومكوناته قوة مدبرة.
ولهذا حصر الله الخشية الحقيقية في العلماء، فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]. فكلما اتسعت معرفتك بالكون أدركت عظمة قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47]، وهي آية يشير إليها كثيرون في سياق الحديث عن تمدد الكون.
نصيحة لقلبك وعقلك:
ولكي يستريح عقلك وقلبك، أنصحك يا بني بالحرص على العلم والدراسة بنية العبادة وزيادة الخشية والقرب من الله، واستكشاف عظمة صنع الله. ويساعدك في ذلك قراءة بعض الكتب أو المقالات التي تربط العلم بالإيمان، فهي تخاطب العقلية العلمية بلغتها.
تذكر يا بني قول الله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي» [متفق عليه]. فأحسن الظن بالله أنه ما خلق هذا الكون باطلًا، وسيريك الله من آياته ما يثبت فؤادك، كما قال: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: 53].
وختامًا يا بني، إن الإيمان الذي يأتي بعد شك وبحث علمي هو إيمان بصير، أصلب عودًا وأقوى جذرًا من إيمان التقليد. فلا تخف من العلم، فالدين والعلم الصحيح صنوان لا يفترقان، يخرجان من مشكاة واحدة. استمر في دراستك، وتفوق فيها، وكن أنت النموذج للعالم المؤمن الذي يرى الله في حركة الذرَّة وفي مدارات المجرَّة.
أسأل الله أن يشرح صدرك، ويثبت قلبك، ويجعل علمك حجة لك لا عليك، وسببًا في قربك منه سبحانه.
روابط ذات صلة: