اغتراب الشباب لماذا أصبح أكثر انتشارًا؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : قضايا إنسانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 189
  • رقم الاستشارة : 3213
05/11/2025

منذ سنوات وهناك حديث عن اغتراب الشباب وتأثير هذا الاغتراب على هويته وسعادته وقوة شخصيته، فما هو هذا الاغتراب ولماذا أصبح منتشرا؟

الإجابة 05/11/2025

أخي الكريم، الاغتراب من أزمات الهوية التي باتت منتشرة في ذلك العصر، ويعاني منها الكثير من الشباب، وكذلك يعاني منها المهاجرون، وبعض الطبقات التي انفصلت عن مجتمعها لصالح ثقافات أخرى، ولهذه الأزمة تأثيرها على الاندماج في المحيط الاجتماعي، سواء للفرد أو للمجموعات الكبيرة.

 

الإنسان الحديث ممزق

 

الاغتراب مدلول واسع، يعبر عن أزمات متعددة، ومعقدة، تكمن في شعور الفرد بالانفصال أو الغربة عن مجتمعه، وعن الآخرين، أو عن ذاته، وقد عرّفه مجمع اللغة العربية بأنه هو شعور الفرد بافتقاد السلطة، وغياب المعيار، الذي يؤدي به إلى الابتعاد عن المجتمع والانعزل عن الجماعة ماديًّا ونفسيًّا.

 

والاغتراب من الأزمات الحديثة التي أخذت تطل برأسها مع عمليات التحديث في الثورة الصناعية في أوروبا وانتقال الريفيين من حقولهم إلى العمل في المصانع بعيدًا عن مجتمعهم التقليدي، فكانت تلك الفترة بدايات إحساس الإنسان الحديث بالاغتراب.

 

وقد ترافقت الحداثة المؤمنة بالعقل والعلم مع الثورة الصناعية لتعمق مشاعر الاغتراب لدى الإنسان المعاصر، فمع إبعاد الإنسان عن الإيمان الديني، والاتصال بالسماء لم تستطع الحداثة أن تعالج آثار هذا التغييب للإيمان الديني.

 

ومع إنشاء الدولة الحديثة التي تنازل فيها الشخص عن جزء من حريته مقابل تأسيس سلطة تمنحه الأمان في إطار ما أسماه الفيلسوف "روسو" بالعقد الاجتماعي، فإن تلك الدولة الحديثة ولدت وتحمل في أحشائها الاغتراب، ولذا اهتم الفلاسفة المعاصرون بتلك الظاهرة اهتمامًا كبيرًا فخصص لها الفيلسوف الألمني "هيجل" كتابه "ظاهريات الروح" للحديث عن الاغتراب السياسي، كما أن عالم النفس الأمريكي ذا الأصول الألمانية "إيرك فروم" اعتبر الاغتراب مدخلاً لفهم أزمات الإنسان المعاصر، وقال: "إن هذا الإنسان تُخلق له أوثان ويطلب منه أن يسجد لها، الخضوع للصنم هو جوهر الاغتراب".

 

هذا جوهر الاغتراب، فالإنسان أصبح مشتتًا بين تجاذبات وانتماءات كثيرة، وربما هذا ما لفت إليه الانتباه المؤرخ والأديب الألماني في القرن الثامن عشر الميلادي "فريدريك شيلر" فأكد أن الإنسان الحديث ممزق، بعدما انفصلت لديه المتعة عن العمل، والوسيلة عن الغاية، والجهد عن العائد، وأن هذا الإنسان أشبه بـ"الشذرة" التي لا قيمة لها؛ بل إن الآلة أصبحت أعلى صوتًا من ذلك الإنسان.

 

نعود مرة أخرى لـ"إيرك فروم" الذي يرى أن طباع الإنسان تغيرت مع التحول الاقتصادي، ومع هذا التغير ظهر الاغتراب؛ لأن سبل الإنسان لتحقيق ذاته أصبحت أكثر ضيقًا من ذي قبل.

 

وهنا لم يجد الإنسان أمامه إلا الخضوع، سواء كان للزعماء أو الأفكار أو حتى للاستهلاك الشره، ومع هذا الاستهلاك أصبح الإنسان متأثرًا بالقيم الزائفة، منغمسًا في الملذات؛ فالحداثة قد تكون حررت الإنسان اقتصاديًّا وسياسيًّا لكنها لم تمنحه القدرة أن يحرر ذاته، كما يقول الفيلسوف "نيتشه".

 

في كتابه "الفردوس الأرضي" يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري عن حالة الاغتراب للإنسان المعاصر المولع بالإنتاج والاستهلاك: "وأصبحت مضاعفة الإنتاج أمرًا مرغوبًا فيه دون اعتبار لحاجات الإنسان الحقيقية، ودون أي احترام لإمكانيات البيئة الطبيعية، أي أن هدف الإنتاج لم يعد إشباع الرغبات الإنسانية وإنما أصبح هو ذاته الهدف والمثل الأعلى وهذا هو قمة الاغتراب".

 

الشباب أكثر اغترابًا

 

الشباب ليسوا نسيجًا منفصلاً عن هذا الإنسان الحديث المغترب، ولكنهم جزء من الإنسان المعاصر الذي يعاني الاغتراب، ولكنهم أكثر معاناة من غيرهم نظرًا لحجم التطورات حولهم، والأهم هو أن مشاعرهم أكثر تأثرًا بما يدور حولهم؛ فالجميع يلهث، والجميع يسرع في خطواته، وبعدما يقطع مسافة كبيرة من حياته يدرك أنه يشعر باغتراب في الطريق الذي سار عليها.

 

أما العوامل المادية وراء انتشار مشاعر الاغتراب لدى الشباب، فترجع إلى حالة البطالة المنتشرة بين الشباب، والفضاء الرقمي الذي رفع سقف تطلعات الشباب دون أن يوجد إشباعًا لتلك التطلعات، وكثرة هجرات الشباب للدراسة والعمل في مجمعات تختلف عنهم اختلافات كبيرة، وقلة مشاركتهم في الحياة السياسية.

 

يقول أبو حيان التوحيدي عن حالة الاغتراب التي قد يعاني منها بعض البشر، ويجدون حرقتها في أرواحهم: "أين أنت عن غريب لا سبيل له إلى الأوطان، ولا طاقة به على الاستيطان.. الغريب من نَطَقَ وصفُهُ بالمحنةِ بعد بالمحنة.. الغريب من إن حضَرَ كان غائبًا، وإن غاب كان حاضرًا. الغريب من إن رأيته لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه. الغريب من إذا ذَكَرَ الحقَّ هُجِرْ، وإذا دعا إلى الحق زُجِرْ.. الغريب في الجملة كُلُّهُ حُرقة، وبعضهُ فُرقة، وليله أَسَفْ، ونهارهُ لَهَفْ، وغداؤه حَزَنْ، وعشاؤه شَجَنْ، وآراؤه ظِنَنْ، وجميعه فِتَنْ، ومفرَقُهُ مِحَنْ، وسِرُّهُ عَلَنْ، وخوفه وَطَـنْ".

 

روابط ذات صلة:

تساؤلات المراهق الفلسفية لماذا الآن؟

هل جيل Z أكثر إلحادًا؟

الموضة كيف تؤثر على عقولنا؟

هل يدفع الملل لارتكاب الجرائم؟

الرابط المختصر :