الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : فقهية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
243 - رقم الاستشارة : 617
08/01/2025
أنا مسلم مقيم في بلاد غير إسلامية وقد ارتد ابني الوحيد، فماذا أفعل معه؟ هل أقيم عليه حد الردة ؟ وكيف أفعل ذلك ؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الأخ الكريم، نسأل الله تعالى أن يعينك على ما ابتلاك به، وأن يشرح صدر ولدك للإسلام، وأن يعيده للإسلام مرة أخرى بعد أن يوقن أنه الصواب، كي تقر عينك به في الدنيا والآخرة.
نعرف أن الخطب جلل، والمصيبة عظيمة، ونحب قبل الإجابة عن سؤالك أن نضع بين يديك هذه الحقائق:
أولا: كان من الواجب عليك أن تُعْنى بولدك منذ نعومة أظفاره، وهذا واجب على كل مسلم يقيم في ديار غير المسلمين، فعليه واجبات ثلاث:
واجب تجاه نفسه، وهو أن يأمن على نفسه من الفتنة في دينه بالانسلاخ عنه، أو ضياع فرائضه، أو ارتكاب محظوراته.
وعليه واجب تجاه أبنائه وأسرته، أن يعمل على حفظ دينهم قبل أن يحفظ لهم نفوسهم وأجسادهم؛ لأن حفظ الدين من أهم وأولى مقاصد الشريعة الإسلامية، والله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ... ﴾ (التحريم: 6).
وعليه أيضا واجب تجاه مجتمعه الذي يعيش فيه وهو دعوته إلى الإسلام بطريقة عملية، حيث يرى الناس من أخلاقه وسلوكه وتصرفاته ما يحملهم على الاهتمام بهذا الدين، واتباعه عن قناعة وحب.
ثانيًا: إقامة الحدود من واجبات الإمام، وليس من واجبات الأفراد، وبالتالي ليس واجبًا عليك إقامة الحد على ولدك؛ لأن هذا ليس واجبًا عليك، وأنت لا تقدر عليه في ظل نظام يبح للإنسان إتباع أي دين، بل يبيح له أن يكون لا دينيًّا ملحدًا، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
ثالثًا: اختلف الفقهاء في إقامة الحد على المسلم في دار الحرب، فقال المالكية والشافعية: يجب على الإمام إقامة الحد عليه، لأن إقامة الحدود لا تسقط في دار الحرب عنه.
وذهب الحنفية إلى أنه لا يقام عليه الحد، ولو بعد رجوعه إلى دار الإسلام؛ لأن الإمام لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب لعدم الولاية، ولا يقام عليه بعد الرجوع إلى دار الإسلام؛ لأن الفعل لم يقع موجبًا أصلاً.
وقال الحنابلة: لا تقام الحدود في دار الحرب، وتقام عليه بعد رجوعه من دار الحرب.
ورأي الحنابلة والحنفية أولى هنا، وأقرب إلى الشرع والعقل، حيث لا يقدر الإمام أن يقيم الحد على إنسان في بلد لا تقع تحت ولايته.
وإذا كانت الغالبية العظمى من بلاد المسلمين لا تقيم الحدود في بلادها الإسلامية ـ إلا ما رحم ربك ـ فكيف نطالب الأفراد أو حتى الحكام بإقامة الحدود في بلاد غير بلادهم .
رابعًا: ليس أمامك سوى دعوته إلى الإسلام، والرفق به، والإحسان إليه ما دمت ترجو عودته للإسلام، ويمكنك الاستعانة على ذلك بأهل العلم الراسخين فيه، والعارفين به حتى يزيلوا الشبهات التي طرأت له، ويرفعوا الغشاوة عن عينيه فيبصر النور بإذن الله تعالى.
خامسًا: إن كنت قد بذلت غاية جهدك، وأخذت بكل الأسباب في هدايته ولم تفلح فلا تأس ولا تحزن، فهذه حكمة الله في خلقه، ولا يمكننا أن نشكك في مدى إخلاص نوح عليه السلام لقومه عامة، ولابنه وزوجه خاصة، فقد لبث فيهم داعية إلى الهدى والحق ألف سنة إلا خمسين عامًا، ومات على الكفر ولده وزوجه، وسجّل الله تعالى في كتابه الكريم فقال: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ (هود: 45- 46).
ويقول في شأن زوجه: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ (التحريم: 10).
ولقد كان رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحرص الناس على دعوة عمه أبي طالب، وقد عز عليه أن يكون مصيره النار بعدما قدم للدعوة الإسلامية كل جهد، وضحى من أجل ابن أخيه بكل ما يملك، ولم يدخر جهدًا في الدفاع عنه وحمايته، حتى خاطبه الله تعالى بقوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص: 56).
سادسًا: عليك بالإخلاص في الدعاء له؛ فالدعاء سلاح المؤمن، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن أيست منه، ولم تأمل في رجوعه إلى الحق فتبرّأ منه، ولا تعامله، واجعل إبراهيم الخليل عليه السلام أسوة لك وقدوة حيث تبرأ من أبيه بعد أن تبين له أن لن يؤمن، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ (التوبة: 114).
والله تعالى أعلى وأعلم