الإستشارة - المستشار : أ. فاطمة عبد الرءوف
- القسم : أسرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
128 - رقم الاستشارة : 946
10/02/2025
السلام عليكم.. أنا شاب في أواخر العشرينيات أحاول قدر طاقتي الالتزام فأصلي وأصوم النوافل وأدرس علوم شرعية وأنا بفضل الله كما يصفني الكثير حسن الخلق هادئ الطباع محبوب من الجميع ما يعكر علي صفو حياتي هي أمي التي أحاول أن أرضيها بشتى الطرق ولكنها لا ترضى أبدًا ودائما تقارنني بالآخرين من الأقارب والجيران لتثبت أنهم أفضل مني، ودائما موضع المقارنة واحد وهو الدخل المادي ومقدار المال الذي يعطونه لأمهاتهم رغم إنني بفضل الله دخلي جيد جدًّا ووظيفتي ذات وضعية جيدة وأنا قانع بعملي وراض به ولا أبخل على أمي بشيء وهي أيضا لديها معاش والدي رحمه الله ولا تحتاج لأي دخل إضافي... أمي لا تتوقف عن الشكوى من حظنا العاثر وحظ الآخرين السعيد رغم إننا في وضع اجتماعي جيد جدا ومحترمين من الجميع.. مشكلتي مع أمي ليست في الشكوى والتقليل مني فقط فأمي لسانها سليط تغتاب الناس وتدعو عليهم دون أي مبرر سوى الغيرة والحقد وأنا أشفق عليها من عداد السيئات وعندما أحاول نصحها ووعظها برفق تسبني وتسخر مني وأحيانا تتهمني أني أكرهها ولا أطيق كلامها والحقيقة أنني فعلا لا أطيق كلامها حتى إنني أتعمد التأخر في العودة حتى لا أقابلها.. أريد طريقة أستطيع بها التعايش مع أمي فأنا أهرب من الحديث معها وهي تطلب مني مجالستها والحديث معها وأنا لم أعد أطيق، أرجو منكم مساعدتي.
الابن الكريم، أهلاً وسهلاً ومرحبًا بك على بوابة استشارات المجتمع، شعرت بمدى مرارة كلماتك.. وصلتني مشاعرك التي يمتزج فيها الغضب بالإحباط ويختلط فيها اليأس بالرجاء، وأقدر تمامًا ما تعانيه وأنت ترى أنه لا مبرر عقليًّا على الإطلاق لما تقوم به الوالدة من سلوكيات ولا تتعاطف وجدانيًّا مع مشاعرها التي تعكس خللاً نفسيًّا لا تفهمه ولا تتفهمه، كما أنها تجرح ضميرك الديني بجلسات الغيبة والاستهزاء حتى وصل الأمر بك للهروب والتباعد، ولعلك تقول في نفسك لعلّي أنجو بنفسي من عداد السيئات الذي ذكرته.
لمحت أيضًا في كلماتك فتورًا عاطفيًّا تجاه الوالدة ربما من كثرة ما قللت منك ولأنها لا تمنحك التقدير الكافي في الوقت الذي يراك كل من حولك نموذجًا مشرفًا للشباب.
لا تندهش يا بني لو قلت لك إن نموذج والدتك هو نموذج شائع ومتكرر بين قطاع من الأمهات، وبإمكانك قراءة هذه الاستشارة أمي سبب مأساتي لتتأكد من أن أمك ليست أسوأ الأمهات، فعلى الأقل هي لا تدعو عليك كالأم في هذه الاستشارة.
أنا لن أدافع عن سلوك والدتك، ولن أسعى لالتماس الأعذار لما تقوم به، ولكني أناشد فيك ضميرك وعاطفتك، أناشد فيك ذلك الرابط العميق الذي تشعر به في قرارة نفسك يربطك بها مهما تصاعدت وتواترت مشاعر الرفض والفتور بل والنفور منك تجاهها.. سأعود لهذه النقطة لاحقًا.. لكني أريد بالتوازي أن أحدثك حديث العقل أيضا فأذكرك بأنها (والدتك) بوابتك الكبرى للجنة أو.. النار! أو ربما قد تكون سببًا أن تكون من رجال الأعراف.
أتعرف يا بني أهل الأعراف هؤلاء المحبوسين على الأعراف ما بين الجنة والنار.. هؤلاء قوم مؤمنون وقد يكونون من أفاضل المؤمنين كالمجاهدين المخلصين الذين استشهدوا في سبيل الله فمنعتهم هذه الشهادة من دخول النار، ولكنهم خرجوا للغزو بغير إذن آبائهم فكان أن حبسوا عن الجنة بسبب معصية آبائهم.. وبعض العلماء يرى أن أهل الأعراف هؤلاء رضي عنهم أحد والديهم فمنعوا من دخول النار لهذه السبب، ولكن الوالد الآخر كان غاضبًا فحبسه عن دخول الجنة.
وأنت رجل صاحب صلاة وصيام وخلق كريم، فهل تريد أن تكون أمك هي سبب حبسك عن دخول الجنة؟ بالتأكيد لا تريد؛ إذن ألا تستحق سلعة الله الغالية أن تصطبر على أمك.. أعلم أنك حاولت وتحاول الصبر، ولكنك يا بني تحارب مرتين، مرة في معركة الصبر مع سوء كلام الوالدة، ومرة ضد نفسك وأنت تجردها من أهم أسلحتها في المعركة الأولى (معركة الصبر) السلاح العاطفي الذي ناشدتك تفعيله لأثره الحاسم في المساعدة؛ لذلك فالله سبحانه وتعالى يذكر الإنسان بحدث لا يذكره وإن كان مطمورًا في غيب النفس البشرية ألا وهو فترة الحمل والرضاعة كي يسهل عليه القيام بواجبه تجاه والديه وأمه على وجه الخصوص {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، وجعل هذه الرابطة القديمة وحدها كافية للشكر، بل وجعل هذا الشكر مقرونًا بشكر الله عز وجل.
ما أريد قوله إن العقل يدعوك للصبر عليها حتى تحقق غايتك لدخول الجنة، ولكي تستطيع هذا الصبر فأنت بحاجة لتفعيل مشاعرك وعواطفك التي تربطك بها حتى تسهل على نفسك الأمر.. لكن ماذا لو أن مشاعرك لم تتحرك.. ماذا إن كنت لا ترى إلا سخريتها منك وعدم تقديرها لك وعجزت عن استدعاء ذلك الرابط القديم الذي يربطك بها، هنا يا بني أنا أشفق عليك لأنك ستحتاج لقوة الصبر مضاعفة كي تتحمل أن تبر أُمًّا لا تشعر تجاهها بأي عاطفة حلوة.
والآن سأخبرك بركيزتين أساسيتين تسهلان عليك ما تعانيه وتحققان لك البر بوالدتك:
ـ عدم التفاعل، اجعل هناك فاصلاً شعوريًّا غير مرئي تعزل به نفسك عندما تبدأ والدتك في الشكوى ونعي الحظ أو مقارنتك بآخرين، فأنت ستكون جالسًا معها ناظرًا إليها لكن منفصل شعوريًّا عما تقول.. المسألة بحاجة للتدريب حتى تجد المحتوى الذي يشغل عقلك ويفصلك عما تقول من حديث مؤذ، ولكن لا بد أن تمارس هذا بذكاء حتى لا تكتشف شرودك، فإيماءة من رأسك قد تكون كافية، وفي الحقيقة هي لا تريدك أن تتكلم معها سيكفيها جدًّا أنها تتحدث وهي تظن أن هناك من يستمع إليها.. وإن ألحت عليك بالكلام فقل لها معك حق سأجتهد أكثر من ذلك، فإن قالت لك بل أنت فاشل، قل لها ادعي لي بالنجاح، وهكذا تمرر المواقف دون مشاكل.
ـ الدعاء بالهداية، عندما تبدأ والدتك بالغيبة والسخرية من الناس حاول أن تمنعها عن ذلك برفق وأنت تخبرها بخوفك عليها، ولا تيأس من تكرار نهيك في كل مرة فأنت لست مطالبًا بالنتيجة، ولكن احرص على الرفق والأدب في الكلام، فإن رفضت نصيحتك وعنّفتك واستمرت في كلامها قم بتفعيل الوضع الأول وهو عدم التفاعل، ولكن انغمس في هذا الوقت في الاستغفار والدعاء لها بالهداية حتى لا تكون مشاركًا في الاستماع لهذه الذنوب.
وتمثل في هذا الموقف نبي الله إبراهيم مع أبيه آزر {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}، فما بين الاعتزال النفسي والدعاء بالهداية يتم التعامل مع الوالد الذي يرتكب الذنوب ويصر عليها طبعًا مع رفض المعصية (وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا)، ومن المصاحبة بالمعروف ألا تفارق البسمة وجهك، وأن تعطي قدر ما تستطيع وإلا يحمل وجهك علامات الازدراء والتأفف. يسر الله أمرك وهدى والدتك وفتح لك فتوح العارفين، وتابعنا دائما بجديدك.