كيف أوازن بين حفظ اللسان والمشاركة في أحاديث المجالس؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الأخلاق والمعاملات
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 23
  • رقم الاستشارة : 3309
20/11/2025

أنا سيدة متزوجة ولدي أطفال، وموظفة في إحدى الشركات. أجد نفسي أحيانًا كثيرة أمتنع عن الخوض في كثير من أحاديث القريبات في اللقاءات العائلية، والزميلات في العمل، خاصة التي تتركز على تحليل حياة الآخرين، أو نقد تصرفاتهم.

امتناعي هذا من خوف شديد من الوقوع في الغيبة أو النميمة أو القذف أو الخوض في أعراض الناس، وأحاول دائمًا أن أحافظ على الستر وتقديم الكلمة الطيبة أو تحويل الحديث إلى موضوع آخر وبيان الحق، خشية الإحراج لي أو للمتحدثة، وخاصة إذا كانت أكبر مني سنًا أو ذات مكانة في المجلس، خوفًا من أن يُفسر كلامي على أنه تحدٍّ أو تكبير للموضوع.

ولكن بعض من حولي يرونني بسبب هذا التورع شخصية ضعيفة، أو غير اجتماعية، أو مبهمة غير واضحة في مواقفي، أو متحفظة بزيادة تصل إلى حد التكلف.

فهل ما يقولونه عني صحيح؟ وكيف أحقق التوازن بين الكلمة الطيبة والسكوت عن سيرة الناس، والمشاركات الاجتماعية دون أن أرتكب حرامًا أو معصية؟

الإجابة 20/11/2025

مرحبًا بك أيتها الأخت الفاضلة، وشكرًا جزيلاً لك على ثقتك بنا، وأسأل المولى -عز وجل- أن يجعلك من الهاديات المهديات، وأن يبارك لك في أسرتك وعملك، ويوفقك لكل خير، وبعد...

 

فإن ما تقومين به من امتناع عن الخوض في أعراض الناس أو تحليل حياتهم ونقد تصرفاتهم، هو التزام بما أمر به الله –تعالى- ورسوله. والشارع الحكيم قد حذَّر تحذيرًا شديدًا من آفات اللسان، كالغيبة والنميمة والقذف.

 

اليقظة الإيمانية قوة وليست ضعفًا

 

إن خوفك الشديد من الوقوع في هذه المحرمات ليس ضعفًا؛ بل قوة تنبع من استحضار عظمة الله ورقابته. وهذا التحفظ هو من صفات المؤمنين الذين أثنى عليهم القرآن. إن مجرد تذكر الآيات التي تشبه المغتاب بآكل لحم أخيه الميت، كافٍ لردع المؤمن، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكمْ أَن يَأْكلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12].

 

وقد بيّن النبي ﷺ خطر اللسان وعلاقته بالاستقامة كلها، فعن سفيان بن عبد الله الثقفي -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول الله، ما أكثر ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: «هذا» [رواه الترمذي].

 

ستر الناس فضيلة

 

أختي الفاضلة، إن جهدك في الحرص على الستر وتحويل الحديث وبيان الحق بلطف هو منهج الأنبياء والصالحين. فالستر على الناس من أحب الأعمال إلى الله، لأنه يدفع الفساد ولا يشيع الفاحشة: قال النبي ﷺ: «مَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» [رواه مسلم].

 

إن اعتبار هذا التورع ضعفًا أو تكلفًا هو نظرة قاصرة من مجتمع قد اعتاد على تجاوز الحدود في الكلام.

 

كيف تحققين التوازن بين حفظ اللسان والتفاعل الاجتماعي

 

لتحقيق التوازن بين صيانة اللسان والمشاركة الفعالة في المجتمع دون أن يقال عنك إنك غير اجتماعية، هناك طرق عملية عدة، مستمدة من الهدي النبوي، منها:

 

1- الدفع بالتي هي أحسن:

 

أنت الآن لا تحتاجين إلى مجرد «السكوت»؛ بل تحتاجين إلى «كفِّ اللسان مع تقديم بديل إيجابي»؛ بتحويل مسار الحديث، وطرح موضوع آخر يكون إيجابيًّا وممتعًا، مثل: أفكار إبداعية في العمل، مشروع خيري، كتاب قرأته، أو حتى مجرد حديث لطيف عن تجربة إيجابية.

 

ويمكنك أيضًا إذا بدأ الحديث في عِرض شخص ما، أن تذكري فضيلة لذلك الشخص، فإن لم تجدي، فقولي لهم: «لعل له عذرًا لا نعرفه»، أو: «دعوا الحكم على الناس لخالقهم العالم بهم».

 

أما عن خوفك من الإحراج أو سوء الفهم مع من هي أكبر منك سنًا أو مقامًا، فهو دليل على أدبك وحسن خلقك. فلا تظهري اعتراضك على أنه حكم عليهم أو توبيخ لهم؛ بل اجعليه في صيغة دعاء: «جزاكن الله خيرًا. اللهم اجعلنا ممن يذكرون الله كثيرًا»، أو تذكير لطيف: «نستغفر الله، أخاف أن نكون قد اغتبنا أحدًا بغير قصد، فلنترك هذا –بعد إذنكن- ونذكر الله».

 

2- المشاركة الإيجابية في أمور أخرى

 

إذا كان الناس يرونك «غير اجتماعية» بسبب امتناعك عن الغيبة، فعلِّمي نفسك والمحيطين بك أن التفاعل الاجتماعي الحق ليس في كثرة الكلام عن الآخرين، بل يكون –مثلًا- في: المشاركة في الحديث عن القضايا العامة، وطلب النصح في أمر ما، وفي طرح أفكار تفيد الجميع، وفي الثناء على عمل زميلة أو قريبة تستحق الثناء، وفي المبادرة بالسؤال عن أحوال الناس بغرض الاطمئنان عليهم ومؤانستهم ومساعدتهم، دون الغوص في حياتهم الشخصية.

 

3- قاعدة «الكلمة الطيبة»:

 

يقول الله تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا﴾ [الإسراء: 53]. فالكلمة الطيبة هي الصدق، وهي العدل، وهي الدعاء، وهي التحويل من الباطل إلى الحق.

 

4- التمسك بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر:

 

يجب التفريق بين التورع عن الغيبة، وبين التنازل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجالس الهزل والباطل. فإذا رأيتِ منكرًا أو باطلاً فلا تكتفي بالسكوت إذا كان الأمر يخص حقًّا عامًّا أو مبدأً شرعيًّا. فسكوتك هنا ليس ورعًا؛ بل تركًا لواجب، وعليك أن تنكري بقلبك، ثم بلسانك، ثم بيدك، حسب الاستطاعة.

 

وختامًا أختي الفاضلة، اعلمي أن من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، والعكس صحيح. فهذه الآراء التي تسمعينها (ضعيفة، غير اجتماعية، متكلفة) هي ضريبة الاستقامة والتميز، وهي ثمن قليل مقابل رضا الله وحفظ حسناتك.

 

كوني كريمة في ابتسامتك لزميلاتك وقريباتك، وسؤالك عن حالهن، ونصيحتك الصادقة لهن، ومشاركتك في الأمور النافعة. فإذا كنت مصدرًا للفائدة واللطف والكلمة الطيبة، فلن يصفك أحد بـ«غير الاجتماعية»؛ بل سيصفونك بالمتزنة، والحكيمة، وذات الأخلاق.

 

أسأل الله –تعالى- أن يثبتك على الحق، وأن يجعلنا وإياك ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

روابط ذات صلة:

النفاق الاجتماعي.. كيف تحمي قلبك ولسانك؟

لساني «سلاح دمار شامل» كيف ألجمه وقت الغضب؟

«أنا ثرثارة».. كيف أتحكم في لساني؟!

أمي سليطة اللسان .. ركيزتان للحل

الرابط المختصر :