بيئة عملي تسودها المخالفات.. هل بقائي إقرار بالباطل؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الأخلاق والمعاملات
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 193
  • رقم الاستشارة : 2185
24/07/2025

أعمل في وظيفة إدارية بشركة خاصة، وأتعامل يوميًا مع موظفين وعمال يتهاونون في الأمانة، ويغشّون في التقارير والفواتير، وأحيانًا يطلب مني رئيسي في العمل غضّ الطرف عن بعض التجاوزات.

حاولت نصحهم، وتذكيرهم بالله، ولكن لا شيء يتغير، ولا أجد منهم سوى السخرية وأحيانًا التهديد.

ما مسؤوليتي الشرعية فيما يحدث من تلاعب وغش؟

وهل بقائي في هذا العمل يُعدّ إقرارًا بالباطل؟

ومتى يصبح استمراري تفريطًا في ديني؟

الإجابة 24/07/2025

مرحبًا بك أيها السائل الكريم، وأدعو الله أن يبارك فيك، ويثبت قلبك على الحق، ويجعل عملك خالصًا لوجهه الكريم، وأن يرزقك من فضله رزقًا حلالًا طيبًا مباركًا فيه، وبعد...

 

فإنَّ ما تمر به من تحديات في بيئة عملك -لا شك- هو ابتلاءٌ عظيم، ولكنه في الوقت ذاته فرصةٌ لتمحيص إيمانك، وإظهار صدقك في التمسك بمبادئ الدين الحنيف.

 

إنّ المسلم في كل موقع، وفي كل عمل، هو سفير لدينه، وممثل لقيمه، وميزان للحق والعدل. وديننا العظيم جاء ليُقيم العدل، ويُعلي شأن الأمانة، ويُحارب الغش والخداع في كل صوره.

 

حدود مسؤوليتك الشرعية:

 

أخي الفاضل، إنَّ مسؤوليتك الشرعية في هذه البيئة الفاسدة تتلخص في نقاط عدة:

 

- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

 

فهذه الفريضة العظيمة هي صمام أمان الأمة، وبها يحفظ الله المجتمعات من الفساد. قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]. وقد قمتَ بهذا الدور بنصحهم وتذكيرهم بالله، وهذا بحد ذاته عملٌ صالح تؤجر عليه. استمر في هذا الدور بالتي هي أحسن، بالحكمة والموعظة الحسنة، وتذكيرهم بعواقب الغش والخيانة في الدنيا والآخرة.

 

قد لا ترى أثرًا فوريًّا، ولكنّ الله يرى ويسمع، وعملك هذا حجةٌ لك لا عليك.

 

- الأمانة والصدق في عملك المباشر:

 

أنت مؤتمن على عملك، وعلى التقارير والفواتير التي تصدر منك. يجب عليك أن تكون قدوةً حسنة، وأن تلتزم بالصدق والأمانة التامة في كل ما يخص عملك المباشر، ولا تغش ولا تتهاون، حتى لو فعل الآخرون. فلقد حذر النبي ﷺ من الغش تحذيرًا شديدًا فقال: «من غشنا فليس منَّا» [رواه مسلم]. فكن أنت الميزان المستقيم في هذه البيئة المائلة.

 

- النصح للمسؤولين بالتي هي أحسن:

 

عندما يطلب منك رئيسك غض الطرف عن التجاوزات، انصحه بلطف وحكمة ولين، وذكِّره بمسؤولية الأمانة، وأنّ الله مطلع على السر والعلن. بيِّن له أن هذا الغش قد يؤثر على سمعة الشركة، وعلى بركة الرزق، وعلى حساب الآخرة. قد لا يستجيب، ولكنك قد أديت ما عليك.

 

- الاجتهاد في تقليل الضرر:

 

بصفتك في منصب إداري، فقد تكون لديك القدرة على اتخاذ بعض الإجراءات التي تقلل من حجم الغش أو تمنعه في نطاق مسؤوليتك المباشرة، دون أن تتعرض لضرر بالغ. ابحث عن هذه الفرص، ولو كانت صغيرة، فكل خطوة في سبيل الإصلاح هي خير.

 

إبلاغ صاحب العمل عن التجاوزات:

 

وفي سياق مسؤوليتك الشرعية، لا تغفل أهمية النظر في إمكانية إبلاغ أصحاب العمل أو الجهات المسؤولة في الشركة عن منع هذه التجاوزات، خصوصًا إذا كانت هناك قنوات آمنة وموثوقة لذلك.

 

هذا الإبلاغ قد يكون واجبًا شرعيًّا إذا كان يؤدي إلى رفع ضرر كبير يلحق بالشركة أو بالآخرين، أو إذا لم تُجْدِ محاولات النصح المباشر. ومع ذلك، يجب عليك تقدير الموقف بحكمة بالغة، والتأكد من أن هذا الإبلاغ لن يترتب عليه ضرر أكبر عليك أو على غيرك، وأن هناك أملًا حقيقيًّا في أن يؤدي إلى الإصلاح.

 

وأنصحك أخي الكريم باستشارة أهل العلم الثقات في بلدك، ممن لديهم دراية بالواقع العملي هناك، وكذلك استشر من له دراية قانونية بهذا الأمر، فقد يقدمون لك نصيحة أكثر تفصيلًا بناءً على معرفتهم بالظروف كاملة.

 

هل بقاؤك في هذا العمل يُعدّ إقرارًا بالباطل؟

 

أخي العزيز، إن مجرَّد وجودك في بيئة يغلب عليها الباطل لا يعني بالضرورة إقرارًا منك به، خصوصًا إذا كنتَ تكره هذا الباطل بقلبك، وتحاول تغييره بلسانك ويدك قدر استطاعتك. قال رسول الله ﷺ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [رواه مسلم]. فما دمتَ تكره المنكر بقلبك، وتحاول تغييره، فأنت لست مقرًّا به.

 

الفرق بين المشاركة والوجود:

 

هناك فرق كبير بين أن تشارك أنت بنفسك في الغش والتلاعب، وبين أن تكون موجودًا في بيئة يحدث فيها ذلك. إذا لم تكن يدك تتلوث بالباطل، ولم تكن توافق عليه؛ بل كنتَ تحاول الإصلاح، فإنّ بقاءك قد يكون فرصة للإصلاح من الداخل، أو على الأقل لتقليل الشر.

 

الضرورة والحاجة:

 

قد يكون بقاؤك في هذا العمل ضرورة لك ولأسرتك لتوفير الرزق الحلال، وهذا أمرٌ معتبر شرعًا، ما لم تكن مضطرًّا للمشاركة في الحرام بشكل مباشر.

 

 

متى يصبح استمرارك تفريطًا في دينك؟

 

هذه هي النقطة الفاصلة التي تحدد متى يجب عليك اتخاذ قرار الرحيل، ويصبح الأمر كما قلت إذا حدث أي من الأمور التالية:

 

- إذا طُلبَت منك المشاركة المباشرة في الحرام:

 

إذا وصل الأمر إلى أن يُطلب منك بشكل مباشر أن تغش، أو تزور تقارير، أو تشهد زورًا، أو توقع على باطل، بحيث تصبح شريكًا مباشرًا في الإثم.

 

- إذا لم تعد قادرًا على إنكار المنكر بقلبك:

 

إذا وصلتَ إلى مرحلة الاعتياد على المنكر، وأصبح قلبك لا ينكره، أو أصبحتَ تراه أمرًا طبيعيًّا، فهذا مؤشر خطير على ضعف الإيمان.

 

- إذا كان بقاؤك يفسد دينك أو أخلاقك:

 

إذا شعرتَ أنّ هذه البيئة بدأت تؤثر سلبًا على إيمانك، أو على أخلاقك، أو على تربية أبنائك، أو أنّها تجعلك تتساهل في أمور دينك، فهنا يجب أن تفكر جديًّا في البحث عن بديل.

 

- إذا أصبح رزقك مختلطًا بالحرام:

 

إذا كانت طبيعة العمل تجعل الراتب الذي تتقاضاه مختلطًا بالحرام بشكل لا يمكن معه تمييز الحلال من الحرام، أو أن أغلب دخل الشركة يأتي من طرق غير مشروعة، فهنا يجب عليك البحث عن عمل آخر.

 

وختامًا أيها الأخ الكريم، إنّ موقفك هذا هو موقف الشرفاء الأمناء، وربما كان الله يريد أن تكون أنت بصيص الأمل والسبب لإصلاح هذه البيئة.

 

ولكن، كن مستعدًا دائمًا للبحث عن بديل إذا وصلتَ إلى النقطة التي يصبح فيها بقاؤك تفريطًا في دينك. فالله -سبحانه وتعالى- هو الرزاق، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه. ثق بالله وتوكل عليه، واعلم أنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.

 

نسأل الله أن يثبتك على الحق، وأن يرزقك من واسع فضله، وأن يحفظ عليك دينك وإيمانك، وأن يجعلك من الصالحين المصلحين. آمين.

الرابط المختصر :