الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
226 - رقم الاستشارة : 2320
09/08/2025
نشأت في بيتٍ كان يملؤه التوتر والقسوة، وأنا في منتصف العشرينات من عمري الآن. والدي -سامحه الله- كان كثير الصراخ والانتقاد، وكنا نتعرض منه للقسوة في التعامل بشكل مستمر. هذه المعاناة تركت أثرًا نفسيًّا كبيرًا عليَّ، لدرجة أنني مررت بفترة طويلة من الاكتئاب في مرحلة المراهقة والجامعة، ولا زلت أُعالج نفسي من آثارها حتى الآن.
كبرتُ الآن وأنا أحمل همّ برّ والدي، وأحاول جاهدًا إرضاءه، لكني أجد صعوبة كبيرة في التعامل معه. هو لا يزال يستخف بي ويقلّل من شأني أمام إخوتي وأمام الناس، ولا يترك مناسبة إلا وينتقد فيها قراراتي واختياراتي في حياتي المهنية والشخصية، مما يجدد الجراح في داخلي ويُتعب نفسيتي.
لا أنكر أني أحبه وأتمنى له كل خير، ولا أحمل في قلبي ذرة كراهية تجاهه، لكني لا أستطيع التقرب منه نفسيًّا وعاطفيًّا، ولا أطيق الجلوس معه لوقت طويل لأن ذلك يستنزف طاقتي ويُعيدني إلى دوامة الحزن. أشعر بالذنب الشديد لأنني لا أستطيع أن أكون الابن القريب المحب الذي يتمناه، وأخاف أن أكون عاقًّا بقلبي، فهل هذا الشعور يعتبر من العقوق؟
وكيف أجمع بين برّ والدي وحماية نفسي من الأذى النفسي؟
وهل يجوز لي أن أحسن إليه وأبرّه من بعيد، بأن أُنفذ طلباته المادية والعينية، دون أن أخالطَه بشكل يضرّ بسلامي النفسي؟
أرجو منكم الإفادة والنصيحة، وجزاكم الله خيرًا.
ولدي الفاضل، مرحبًا بك، وأشكرك على ثقتك الغالية بنا، وعلى أنك فتحت قلبك وشاركتنا ما يثقل كاهلك من هموم. أسأل الله أن يبارك فيك، وأن يرفع عنك كل همّ وغم، وأن يقرّ عينك ببر والديك، وأن يكتب لك الأجر والثواب على كل ما بذلته وتبذله من جهدٍ لتحقيق ذلك، وبعد...
فما مررت به –يا ولدي- من تجربة قاسية في طفولتك ومراهقتك ليس بالأمر الهين، وكونك تحمل هذه الجراح الكبيرة وتصرّ على بر والدك، وتخشى على نفسك من العقوق، لهو دليل على قوة إيمانك ونقاء سريرتك. وتعالَ معي نستعرض أسئلتك، سائلًا الله -عز وجل- التوفيق لإفادتك وتهدئة مشاعرك وإرشادك للصواب.
هل الشعور بالنفور من الوالد يُعدُّ عقوقًا؟
يا بُنيَّ، إن المشاعر التي تحملها في قلبك تجاه والدك هي لحد بعيد نتيجة لتجربة مؤلمة ومستمرة، ولا أعدُّها عقوقًا. فالعقوق هو الإساءة الفعلية أو القولية للوالد، أو عصيانه في المعروف، أما أن يكون قلبك متأثرًا بجراح الماضي لدرجة عدم القدرة على القرب منه عاطفيًّا، فهذا ليس تحت سيطرتك المباشرة، ولا يُلام عليه المرء.
إن الله -سبحانه وتعالى- لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، وقد قال في كتابه العزيز: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286]. وقلبك الذي عانى كثيرًا من الأذى، يجد صعوبة في الانفتاح العاطفي، وهذا ليس رفضًا للوالد؛ بل هو آلية دفاع نفسية لحماية ذاتك من مزيد من الألم. لذا فإنك ما دمت تحبه من قلبك، وتتمنى له الخير، ولا تحمل له أي حقد أو كراهية، فإنك على الخير والهدى.
إن العقوق عملٌ لا شعورٌ، وأنت تحاول جاهدًا بر والدك رغم كل ما في قلبك من جراح، وهذا هو عين الإحسان الذي أمرنا الله به. والله مطلع على خبايا القلوب، ومُقدِّرٌ لجهدك وصبرك.
كيف تجمع بين بر والدك وحماية نفسك من الأذى؟
ولدي الحبيب، إن بر الوالدين لا يعني أبدًا أن تضحي بسلامتك النفسية؛ بل يعني أن تجد التوازن الصحيح الذي يمكِّنك من أداء واجبك دون أن تهلك نفسك. وإليك بعض النصائح التي قد تعينك على ذلك:
- ضع حدودًا: إن وضع الحدود -في حالتك- ليس عقوقًا؛ بل هو وسيلة للحفاظ على العلاقة. يمكنك أن تضع حدودًا لنوعية الحوارات التي تتقبلها، وأن تنهي الجلسة بلطف إذا شعرت أنها بدأت تؤثر سلبًا على نفسيتك. يمكنك أن تقول: «يا أبي، أنا أحبك وأحترمك، ولكن هذا الحديث يزعجني، دعنا نتحدث في موضوع آخر».
- لا تبرر ولا تدافع: عندما ينتقدك والدك، لا تدخل معه في جدال عقيم. استمع باحترام؛ لكن لا تشارك في معركة كلامية. يمكنك أن تكتفي بالقول: «حاضر يا أبي»، أو «جزاك الله خيرًا على نصيحتك»، مع ابتسامة لطيفة، دون أن تبرر قراراتك؛ لأنك في سنٍّ تتحمل فيه مسؤولية اختياراتك.
- ركّز على البر العملي: برّ الوالدين ليس مقتصرًا على الجلوس معهم؛ بل يشمل الإحسان العملي أيضًا، مثل مساعدته في شؤونه، وقضاء حوائجه، والدعاء له. يمكنك أن تركز على هذه الجوانب لتُرضي نفسك ووالدك ومن ثم ربك.
- الدعاء سلاح المؤمن: استغلّ سلاح الدعاء، فهو أقوى ما تملك. ادعُ لوالدك بالهداية وصلاح الحال واللين، وادعُ لنفسك بالصبر والسكينة، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء.
لا تنتظر المقابل دنيويًّا: لا تنتظر من والدك مقابلًا لإحسانك، ولا تنتظره في الدنيا عمومًا، تذكر قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ [الرعد: 22]. فكن أنت صاحب الحسنة، واجعل برَّك له سببًا في دفع أذاه، واحتسب الأجر عند الله.
هل يجوز الإحسان والبر من بُعد؟
نعم يا بني، يجوز لك أن تبرَّ والدك وتحسن إليه من بعيد؛ بل إن هذا قد يكون الحلّ الأمثل لك (في وضعك الحالي) فأبواب البر كثيرة جدًّا ومتعددة، والله -سبحانه وتعالى- قد أمر بالبرِّ والإحسان للوالدين، ولم يحدِّده بنوع معيّن من التعامل. فقد قال: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، وقال في شأنهما أيضًا: ﴿وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]. والإحسان والمعروف يشملان كل ما هو خير لهما، سواء كان ذلك من قُرب أم من بُعد، ما دام يصب في مصلحتهما ولا يضرُّك.
فإن كنت تجد أن القرب المباشر يضر بسلامك النفسي، فإن إحسانك المادي لوالدك وخدمتك له من بعيد يعدُّ برًّا عظيمًا. وقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: «لا يَجْزِى وَلَدٌ والِدًا إلا أن يجدَه مملوكًا، فيَشْتَرِيَه فيُعْتِقَه» [رواه مسلم]. وقال: «الوالِدُ أوسطُ أبوابِ الجنَّةِ، فإنْ شِئتَ فأضِعْ ذلك البابَ أو احفَظْه» [رواه الترمذي].
فيمكنك –يا ولدي- أن تبرَّ والدك من خلال:
* تلبية طلباته المادية والعينية.
* إهدائه الهدايا التي يحبها.
* الدعاء له في كل صلاة، وهو أفضل ما تقدمه له.
* مجالسته ومحادثته في أوقات مناسبة ومحدودة، بحيث لا تستنزف طاقتك.
بهذا، تكون قد جمعت بين برِّه وحقِّ نفسك في السكينة والطمأنينة.
وختامًا –يا بني- اعلم أن الله يرى كل جهد تبذله وكل صبر تتحلى به، وأن أجر برِّك لوالدك عظيم، ومضاعفٌ بسبب ما تواجهه من تحديات. فاستمر في الدعاء لوالدك بأن يلين قلبه، ولنفسك بأن يمنحها الصبر والسكينة. تذكر أنك على طريق الأنبياء والصالحين الذين صبروا على أذى أقرب الناس إليهم.
أسأل الله أن يفرّج همّك، ويشرح صدرك، وأن يجعل عاقبة أمرك خيرًا.