الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
91 - رقم الاستشارة : 2668
13/09/2025
قليل من هم ينظرون إلى السماء أو يتفكرون فيما حولهم، والسؤال هل نحتاج إلى التأمل لتحسين جودة حياتنا أم أن التأمل شيء يمكن القفز عليه وإكمال الطريق في الحياة؟
أخي الكريم، أشكركم على هذا السؤال الذي يناقش قضية مهملة في حياة الإنسان المعاصر، وهي مهارته وقدرته على أن ينظر لذاته وداخله ويتأمل مليًّا في أعماقه، وفيما حوله من الموجودات.
هذه الرحلة العميقة تمنح الإنسان سكينة وعافية في جسده وصحة عقلية ونفسية، وهو ما تؤكده الأبحاث الحديثة من أن أفكارنا لها تأثير على عقولنا وأبداننا وأرواحنا، وقديمًا قال الفيلسوف والإمبراطور الروماني "ماركوس أوريليوس": "إن سعادة حياتك تعتمد على جودة أفكارك"، فكلما كانت الأفكار جيدة كانت أحد أسباب جودة الحياة وسعادتها ونثر مشاعر الرضا في جنباتها، والتأمل الداخلي يتميز أنه إذا أتقنه الإنسان فإنه يسبح في رحابة الروح.
التأمل والدين
ورغم أهمية التأمل في الحياة الإنسانية، فإن الديانة البوذية وما يرتبط بها من فلسفة طرحت نفسها كواحة للتأمل الذاتي، وحازت انتشارًا واسعًا في الغرب، وبخاصة في الولايات المتحدة، التي تختصر كل شيء في عملية تسويقية.
فمنذ الستينيات من القرن الماضي أخذت جلسات التأمل البوذية في الانتشار التدريجي في الغرب، تحت مسميات متعددة منها "اليقظة الذهنية"، على اعتبار أن التأمل يمنح يقظة تتيح للإنسان أن يرى ببصيرته أعماقه وما حوله في الوجود، فأصبحت جلسات التأمل أحد مكونات المشهد الثقافي داخل أوساط غربية، كنوع من البحث عن السكينة في عالم يتسم بالسرعة والتقلب وتغلب المادية على حركته وتفاعلاته، وتم تسكين تلك الممارسة الروحانية في إطار علماني، لذلك أعطت نتائج سريعة لكنها قصيرة العمر وبلا عمق حقيقي، فتحولت إلى حالات من الاسترخاء أكثر منها حالة تأملية تنتهي إلى يقين أو معرفة حقيقية.
فالشخص الذي يمارس التأمل -وفق البوذية مثلاً- يجلس بشكل معين، ويؤدي حركات أو يلتزم الصمت والسكون، وهذا يختلف عن التأمل في غالبية الأديان، لأن الأديان تسعى لتجاوز تلك القشور السطحية في التأمل، وتسعى للنفاذ مباشرة إلى القلب وإيقاظه من غفلته، وأمام تلك الغاية الكبيرة لا تُعنى الأديان بأن يجلس الشخص بشكل معين، ولكن يعنيها القلب وأن ينظر الإنسان إلى ذاته من داخله.
المفكر "علي عزت بيجوفيتش" في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" يربط بين التأمل والدين، فالتأمل عملية عقلية يستطيع الإنسان أن يمارسها بغض النظر عن مستوى الذكاء، فيقول: "إذا دققنا النظر في التأمل نجد أنه ليس وظيفة من وظائف الذكاء، فالعالم وهو يصمم نوعًا جديدًا من الطائرات لا يتأمل، إنما يفكر أو يدرس ويبحث ويختبر ويقارن، وكل هذه الأنشطة في مجموعها أو منفردة ليست تأملاً، أما الراهب والشاعر والمفكر والفنان، فإنهم يتأملون، إنهم يحاولون الوصول للحقيقة الكبرى، السر الوحيد الأكبر، هذه الحقيقة تعني كل شيء ولا شيء: كل شيء بالنسبة للروح ولا شيء بالنسبة لبقية العالم، من أجل ذلك، كان التأمل نشاطًا دينيًّا".
ومن هنا، فإن التأمل من منظور ديني هو أقدر على ترويض المادية في النفس، وتهذيب شغفها الاستهلاكي، أو اللهاث وراء الشهوات والنزوات، وفي تلك الحالة يُمكن للإنسان أن يملك زمام نفسه ويسيطر عليها سيطرة تسير بها على طريق التسامي الروحي والوجداني.
التأمل طريق للعافية
أخذت الدراسات النفسية والمتعلقة بعلم الأعصاب والدماغ تهتم بتأثير التأمل على الصحة النفسية والعقلية، ففي دراسة علمية محكمة نشرت في منتصف العام 2023 بعنوان "التأمل وفوائده الصحية العقلية والجسدية" أكدت أهمية التأمل كوسيلة للصحة النفسية والعقلية.
وذكرت أن التأمل له فوائده على الجسم، واستندت إلى التصوير المغناطيسي الذي أظهر نتائج إيجابية على الدماغ مع ممارسة التأمل، وذكرت أن التأمل يحسن الجهاز المناعي، ويقاوم الأمراض النفسية ويؤدي إلى الصحة العقلية، وأنه يخفض ضغط الدم ومرض السكري، ويقاوم الشيخوخة، كما أنه أحد عوامل مقاومة الاكتئاب، ويقلل المشاكل النفسية، ومن عوامل التعافي في اضطرابات ما بعد الصدمات.
وقالت الدراسة إن كل شيء يبدأ من أفكارنا، وذكرت أن دراسة التأمل في ضوء علم الأعصاب يؤكد فوائده في إعادة هيكلة أدمغتنا، وتنشيط المراكز العاطفية والمعرفية في الدماغ، وأنه يزيد من الإحساس بالسعادة ويدعم المشاعر الإيجابية.
وخلصت دراسة بعد مراجعة (14) دراسة أخرى إلى أن التأمل يخفض الأفكار والسلوكيات الانتحارية خاصة ممن يعانون من الاكتئاب، خاصة أن الاكتئاب أحد مسببات الموت الكبيرة عالميًّا، فالتأمل يؤدي إلى تحسين جودة العلاقات الاجتماعية في كثير من الأحيان.