الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : المراهقون
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
59 - رقم الاستشارة : 3026
20/10/2025
أنا أب وبكل صراحة مرهق ومخنوق من اللي بيحصل مع بنتي اللي عندها ١٦ سنة. كل ما يحصل بينها وبين أمها مشكلة -لو أمها زعلِتها أو عاتبِتها أو حتى حاولت أأدبها بشدة- البنت بتبدأ تهدد إنها تنتحر، ومرات كتير بتنفذ التهديد ده وتحاول تنتحر بأكتر من مرة وبطرق مختلفة.
إحنا حاولنا نتحكم في الموقف، حاولنا نهدّيها ونكلّمها ونمنعها من الوصول للحاجة اللي تضرها، ومش عارفين نوقفها. مرات بتبقى هادية بعدين الرجوع لنفس الدوامة. القلق مرّ علينا إحنا الاتنين -أنا وأمها- وبقينا محاطين بخوف وذنب وحسّ إننا ما بنعرفش نربيها ولا نساعدها.
البنت ساعات بتتكلم وكأنها محبطة جدًا من تعامل الأم معاها، وساعات بتقول كلام عن اليأس من الحياة، وإحنا نحسّ إن كل محاولاتنا بقت بتبوظ. إحنا تعبنا معاها جسديًا ونفسيًا، ومش عارفين نتصرف إزاي بحيث نحميها ونساعدها وفي نفس الوقت مانكبرّمش المشكلة أو نزوّدها.
أحتاج نصيحة حضرتك يا دكتورة أميمة إزاي أتعامل مع بنتي دي؟ إزاي أوقف محاولات الانتحار؟ وإزاي نصلح علاقتها بأمها من غير ما نخسّرها أو نأذّيها أكتر؟
أخي الفاضل،
أقدّر جدًّا ألمك وارتباكك في هذا الموقف الصعب، فما تصفه من تصرفات ابنتك ليس أمرًا بسيطًا، ولا هو نوع من "التمرد العادي للمراهقة"، بل هو نداء استغاثة نفسي عميق يحتاج إلى وعي وصبر واحتواء أكثر من العقاب أو الزجر.
اسمح لي أن أضع أمامك الصورة كاملة من منظور علم النفس التربوي الأسري، حتى نفهم الأسباب ونبني خطوات علاجية واقعية متزنة بإذن الله تعالى.
الفهم النفسي لسلوك ابنتك
في مثل عمر ابنتك (١٦ سنة)، تكون النفس في أوج مرحلة "الاضطراب الانفعالي للمراهقة" (Adolescent Emotional Instability)، وهي مرحلة تتأرجح فيها المشاعر بين الرغبة في الاستقلال وبين الحاجة إلى الحب والاحتواء.
عندما تتعرّض الفتاة في هذا العمر للعنف اللفظي أو الشدّة الزائدة أو الانتقاد المستمر، تشعر بما نسميه في علم النفس "فقدان الأمان النفسي" (Loss of Psychological Security)، فيبدأ عقلها العاطفي في إرسال رسائل يأس ورفض للحياة.
وغالبًا ما يكون تهديدها بالانتحار نوعًا من "الصرخة النفسية" (Psychological Cry)، لا رغبة حقيقية في الموت، لكنها تريد أن تُسمَع، وأن يشعر من حولها بألمها الداخلي، فتستخدم هذا السلوك لتعبّر عن احتياجها العميق إلى الحب والاهتمام، لا إلى الموت نفسه.
لكن تكرارها الفعلي لمحاولات الانتحار يعني أنها وصلت إلى ما نُسميه في العلاج النفسي "مرحلة الخطر السلوكي" (Behavioral Risk Stage)، أي أن الاضطراب النفسي تحوّل من فكرة إلى فعل، مما يستوجب تدخلًا جادًّا ومدروسًا.
أبعاد الموقف الأسري
غياب التوازن بين الحزم والحنان داخل الأسرة يولّد لدى المراهقة صراعًا داخليًّا يُعرف بـ "التنافر الانفعالي الأسري" (Family Emotional Dissonance)، حيث تشعر الفتاة أن بيتها مصدر توتر لا راحة.
من خلال كلامك، يبدو أن العلاقة بين أمها وبينها مليئة بالتوتر والمقارنة واللوم. الأم قد تكون -دون قصد- تُكرّر عبارات مثل: "أنتِ لا تفعلين شيئًا جيدًا، خيبتِ أملي، انظرِي إلى غيرك..."، وهذه العبارات تُحدث في نفس الفتاة جرحًا عميقًا فيما يُعرف بـ "الصورة الذاتية السلبية" (Negative Self-Image).
أما أنت كأب، فأرى أنك تمثل لها "الأمان المؤجل"، فهي تشعر أنك أقرب إليها من الأم، لكنها في الوقت نفسه تخاف من رفضك أو فقدانك؛ ما يجعلها تلجأ إلى الانتحار كرسالة غير واعية تقول: "أنقذوني، لا تتركوني".
دور التوجيه التربوي والنفسي العملي
1- توقّف عن التهديد والعقاب فورًا
أخي الكريم، لا فائدة من الشدّة في هذه المرحلة؛ لأن الضغط النفسي على المراهق المصاب بأعراض يأس قد يُفاقم حالته.
قال النبي ﷺ: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله»، والرفق هنا ليس ضعفًا، بل هو "قوة في ضبط النفس وتفهّم الألم".
2- أيضًا من الضروري جدًّا عرضها على أخصائي نفسي مراهقين لإجراء تقييم خطر، لتحديد مدى خطورة حالتها ووضع خطة علاجية آمنة. وهذا ليس عيبًا ولا تقليلًا من شأن الأسرة، بل دليل وعي ومسؤولية.
3- اجلس معها وحدك، دون أمها في البداية، ثم افتح معها باب الحوار الصادق والآمن، وقل لها ببساطة وصدق: "يا حبيبتي، أنا شايف وجعك، ومش عايزك تحسي إنك وحدِك، احكيلي اللي جواك من غير خوف".
في علم النفس الأسري يُسمّى هذا "الاحتواء العاطفي" (Emotional Containment)، وهو الخطوة الأولى لخفض السلوك الانتحاري.
4- حاول إعادة بناء العلاقة بينها وبين أمها بالتدرّج..
فلا تدفَعها دفعًا نحو أمها فورًا، بل ابدآ بخطوات صغيرة: رسالة قصيرة من الأم فيها حب واعتذار غير مباشر، مشاركة في نشاط بسيط، ثم جلسة حوار قصيرة في جو هادئ.
في التربية الحديثة نسمّي هذا "إعادة الارتباط العاطفي" (Emotional Reattachment).
5- ومن الضروري جدًّا أن تراقب مؤشرات الخطر يوميًّا..
انتبه لأي تغيّر في نومها، أو شهيتها، أو انعزالها، أو كلامها عن الموت أو الملل من الحياة، فهذه تُعرف بـ "المؤشرات التحذيرية المبكرة" (Early Warning Signs)، وذلك دون أن تلفت نظرها لمراقبتك واهتمامك .
6- ادمجها في أنشطة خارجية تُعيد ثقتها بنفسها..
شجّعها على الانضمام إلى عمل تطوعي، أو ممارسة هواية تحبها، فالنشاط الإيجابي يُعيد بناء "التقدير الذاتي" (Self-Esteem) ويخفف الشعور بالفراغ الوجودي.
7- أكثروا من الدعاء والاحتساب، وغيّروا لغة البيت
اجعلوا البيت مليئًا بالثناء بدل اللوم، وبالكلمة الطيبة بدل الصراخ. قال الله تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، فالكلمة الطيبة دواء نفسي عجيب.
وأخيرًا يا أخي الفاضل، ابنتك لا تريد أن تموت، بل تريد أن تُحَب. هي تطلب منك ومن أمها أن تروها بعين القلب لا بعين التقويم، وأن تُدركوا أن وراء سلوكها المؤلم جرحًا نفسيًّا عميقًا لا يُشفى إلا بالحب والاحتواء والصبر.
كن لها المَثَلَ الأعلى في الرحمة والعقل والحكمة. واحتسب جهدك عند الله، فكل خطوة تصبر عليها اليوم ستكون لبنة في بناء نفسٍ ناجيةٍ غدًا إن شاء الله.
* همسة أخيرة:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾.. ولقد جعلك الله سببًا في حياة ابنتك، فاصبر، واحتوِ، واطلب العون من الله ثم من المتخصصين، فهما جناحا النجاة بإذن الله تعالى.
روابط ذات صلة: