الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
74 - رقم الاستشارة : 3541
09/12/2025
بناء الشخصية عملية معقدة للغاية تتفاعل فيها العوامل البيئية من تربية وثقافة مجتمعية وكذلك العوامل الذاتية، وهنا أحب أن أطرح تساؤلاً عن تأثير التدليل الزائد على بناء الشخصية، وهل هذا التدليل يضعف الشخصية وقدرات الشخص على الاستقلال والتفكير الحر.. أم أن التدليل يمنح الإنسان الشعور بالاهتمام والمحبة والتعاطف؟
أخي الكريم، بناء الشخصية من المهام الإنسانية الصعبة التي تقوم بها الأسرة والمجتمع، وكلما كانت الشخصية قوية ومتوازنة، كان عطاؤها في الحياة كبيرًا، ولا نبالغ إذا قلنا إن ذلك من الصناعات الإنسانية الثقيلة، فشخصية قوية نافعة يمكنها أن تكون نواة للصلاح والإصلاح.
وبناء الشخصية المتوزانة الفاعلة الإيجابية ليس عملية سهلة يسيرة، ولكنها أشبه بمعادلة يجب أن تنضبط أطرافها حتى تعطي النتائج المرجوة.
تُعرف الشخصية بأنها "مجموعة من الأنماط السلوكية، والمعرفية والعاطفية المترابطة التي تميز كل شخص وتمثل تكيفه الفريد مع الحياة"، وحتى تتسم الشخصية بأنها سوية ومعتدلة يجب أن تتوازن فيها عناصر البناء وبخاصة أثناء فترة التكوين، وبخاصة عنصرا الشدة واللين،؛ فالتدليل المعتدل مفيد للغاية في بناء الشخصية وإكسابها العمق العاطفي والوجداني، لكن زيادة التدليل قد تتسبب في إحداث خلل في الشخصية فيضعف استقلاليتها، ويجعلها أكثر اعتمادية على غيرها.
التدليل المفرط
التدليل المفرط أن تزيل كل العقبات من أمام الشخص، وأن تكون كل طلباته مجابة، فلا يسمع كلمة "لا"، فالحماية الزائدة لها مخاطرها في بناء الشخصية، ولذلك تقول الحكمة "الشخصية لا تُبنى في الهدوء والسكينة، ولكنها تُبنى من خلال التجارب والمعاناة"، ولذلك كانت النصائح الدائمة في المجال التربوي ألا تجعل من شخصية ابنك كيانًا هشًّا مثل الأوراق الضعيفة التي يتجاذبها اليسير من الهواء، فتلبية المطالب تضعف الشخصية، وتجعلها اتكالية اعتمادية على غيرها، فتنمو الشخصية وكأنها تستحق كل شيء بمجرد أن تطلب الشيء دون أن تفكر في الواجبات المفروضة لنيل ما تريد.
التدليل باب للجريمة أحيانــًا
الشخصية التي تؤمن بأنها استحقاقية تُصاب بأزمات كبيرة في مسارها الحياتي؛ لأن الحياة كما يقولون "ليست مثل أمك لن تنام إذا لم تتناول عشاء".
تشير الدراسات النفسية إلى أن الأطفال المدللين بشكل مفرط يفتقرون إلى المعايير والحدود في تصرفاتهم، وينشأون على قيم ضعيفة، وهم أكثر احتمالاً أن تتطور شخصياتهم لتصبح شديدة الأنانية؛ نظرًا لأن شعورهم العالي بالاستحقاق يجعلهم يتصورون أن كل شيء يجب أن يحصلوا عليه لا لشيء إلا لأنهم جديرون بالحصول عليه.
هذا الشعور الاستحواذي السابق على الشخصية المدللة قد يقربها أكثر من عالم الجريمة خاصة إذا صدمتهم البيئة والمجتمع بالحقيقة، وعند هذه الصدمة قد تكون الجريمة -من وجهة نظرهم- هي السبيل الوحيد لاسترجاع توازنهم النفسي، كما أن شعور الاستحقاق الناشئ عن التدليل يدفعهم لتبرير الكثير من التجاوزات والجرائم، وبخاصة السرقة إذ يعتبرون أن المال العام أو مال الغير هو حقهم.
تحدث علم النفس عما أسماه "متلازمة الطفل المدلل"، وهو مصطلح يصف سلوكيات الطفل الأناني وغير الناضج، نتيجة أسلوب تربية مفرط في الدلال يفتقر للحدود والقواعد الواضحة، ويستجيب لجميع طلباته دون مقابل أو تحمل للمسؤولية، مما يؤدي إلى ضعف شخصيته وصعوبة التعامل مع الإحباط أو تقبل الرفض، وتظهر الأعراض في نوبات الغضب، الأنانية.
منذ سنوات أصدر البرفيسور الأمريكي المختص بالتربية "ألفي كون" كتابه "أسطورة الطفل المدلل" The Myth of the Spoiled Child، وفي هذا الكتاب انتقد التدليل المفرط الذي يؤدي حتمًا إلى تشوهات في الشخصية، ونبه على عدد من النقاط المهمة، منها:
* أن الآباء متساهلون للغاية ولا يضعون حدودًا: فغياب الحدود والمعايير أثناء التنشئة ضار بالشخصية، إذ يُحدث خلخلة في منظومة القيم والأخلاق.
* أن الآباء يحمون الأطفال بشكل مفرط ولا يتركونهم يعانون من العواقب، وعندما لا يتحمل الشخص العاقبة فإن غضبه ونزواته وكسله يقوده إلى نهاية النفق الظلم وإلى كارثة محققة.
* أن الآباء يحولون الأطفال إلى نرجسيين متغطرسين من خلال الثناء: فالنرجسية أو الانبهار بالذات هو عملية تراكمية تبدأ منذ الطفولة، وهي تصيب الإنسان بالكبر وتجعله يعتقد أنه فوق الجميع وأنه خلق من مادة أخرى غير الطين الذي خُلق منه البشر.
* أن ما يحتاجه الشباب هو التحلي بالقدرة على تأجيل الإشباع: أي القدرة على مقاومة الرغبات الطارئة، فتلك القدرة هي التي تؤسس لشخصية قوية، ولذلك كان الحديث النبوي الشريف المتفق عليه: "ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"؛ فتأجيل إشباع النفس من الانتقام في حال الغضب هو قوة للشخصية.
روابط ذات صلة:
هل للرقمية تأثيرات سلبية على فتياتنا؟
المدللة أم المدبرة.. أيهما أختار؟
ما هو الإصغاء؟ وهل يقود إلى الحكمة؟
زوجي كثير التدليل لطفلينا.. كيف أتعامل؟!