الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : روح العبادات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
22 - رقم الاستشارة : 2049
23/05/2025
ما الحكمة من السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة؟ وكذلك الهرولة بين العلمين الأخضرين أثناء هذا السعي؟
أعلم أنه تذكير بقصة هاجر وإسماعيل، لكن هل يستحق الأمر أن يكون شعيرة ثابتة من شعائر الحج والعمرة؟ وأن يقول الله في القرآن إن الصفا والمروة من شعائر الله؟
أريد أن أتلمس السر وراء ذلك؟
مرحبًا بك أيها السائل الكريم، وبارك الله فيك، وأسأل الله أن يفتح عليك فتوح العارفين، وأن ينير بصيرتك بنور الإيمان، وأن يرزقك فهمًا عميقًا لدينه القويم، وأن يتقبل منك صالح الأعمال، وبعد...
فنعم، كما تفضلت، إن السعي بين الصفا والمروة هو تذكيرٌ بقصةٍ عظيمة، قصة أُمنا هاجر وابنها الرضيع إسماعيل عليهما السلام. ولكن هل هذا هو كل شيء؟ وهل مجرد تذكير يستحق أن يكون شعيرة ثابتة من شعائر الله العظمى؟ هنا يكمن السر، وهنا تتجلي الحكمة البالغة التي تظهر من خلال الآتي:
1- استحضار التوكل المطلق على الله والتسليم له:
قصة هاجر ليست مجرد حكاية، بل هي درسٌ عمليٌّ في أعلى درجات التوكل. تخيَّل معي يا أخي الكريم: امرأة وحيدة، في صحراء قاحلة، لا ماء، لا طعام، ومعها رضيع جائع يبكي. تُترك بأمرٍ الله، فما يكون منها إلا أن تقول: «إذن لا يضيعنا».
فالسعي بين الصفا والمروة هو استحضارٌ لهذه اللحظات الحرجة، وتجسيدٌ لروح التوكل التي ملأت قلب هاجر. أنت تسعى، تبذل الجهد، ولكن قلبك معلقٌ بالله وحده. تعلم أن الرزق بيده، وأن تفريج الكرب من عنده: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]. ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [المائدة: 23].
هذه الشعيرة تعلمك أن تبذل الأسباب، ولكن لا تركن إليها، بل تركن إلى مسبب الأسباب، وهو الله عز وجل.
2- تجسيد روح الصبر والمثابرة وعدم اليأس:
سعت هاجر سبع مرات بين الصفا والمروة، كل مرة كانت تعود أدراجها خالية الوفاض، لكنها لم تيأس. كانت تظن أن هناك ماء، وعندما لا تجد تعود لتنظر في الجهة الأخرى. هذا السعي المتكرر، وهذا البحث الدؤوب، هو رمزٌ للصبر الجميل والمثابرة على طلب الرزق أو الفرج من الله، مهما طال الانتظار.
عندما تسعى، فإنك تُعيد تمثيل هذه اللحظات، تتذكر أن الفرج قد يأتي بعد مشقة، وأن العسر يأتي بعده يسر. وهذا يدفعك في حياتك كلها ألا تيأس من رحمة الله، وأن تستمر في السعي والعمل الصالح، حتى وإن لم ترَ النتائج فورًا: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 6].
3- تذكيرٌ بمنزلة المرأة في الإسلام ودورها العظيم:
إنّ الله -عز وجل- قد خلَّد قصة هاجر وسعيها، وجعلها شعيرة يمارسها الملايين من الرجال والنساء على مر العصور. هذا تكريمٌ عظيمٌ للمرأة، وتأكيدٌ على دورها الفاعل في نشر التوحيد وإقامة شعائر الله. لقد كانت هاجر مثالًا للمرأة المؤمنة الصابرة، وهذا السعي يذكّرنا جميعًا بقيمة المرأة في بناء الأمة.
4- الفرج يأتي من حيث لا تحتسب:
عندما يئست هاجر من إيجاد الماء بين الصفا والمروة، ولم تيأس من رحمة ربها، تفجَّرت زمزم تحت قدمي إسماعيل عليه السلام. لم يكن الماء في الصفا ولا في المروة، بل كان من نبع إلهي، من حيث لا تحتسب.
وهذا السعي يذكِّرنا بأن الرزق والفرج من الله يأتيان بطرقٍ لا نتوقعها. قد تسعى وتجهد، وقد لا تجد ما تريده بالطرق المعتادة، لكن الفرج يأتي من الله بغير حساب: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 و3].
الحكمة من الهرولة بين العلمين الأخضرين:
الهرولة في جزء معين من السعي (بين العلمين الأخضرين) هي تجسيدٌ آخر لجانبٍ مهمٍّ في قصة هاجر، وهو حالة الشوق والحاجة الملحة لله، فعندما كانت هاجر تسعى كانت في حالةٍ من الشوق الشديد للماء، وفي حاجة ماسّة لإنقاذ رضيعها. فهذه الهرولة من الحاج والمعتمر الآن هي تمثيلٌ لهذه الحالة من الشوق واللهفة والسرعة في طلب الفرج من الله. هي تعبيرٌ عن لهفة القلب إلى رحمة الله وفضله. إنه إسراعٌ يوحي بالعجلة في طلب المدد والعون من الله، وكأنك تستحضر تلك اللحظات التي كانت فيها هاجر تهرول على أمل أن تجد شيئًا، وكلها رجاءٌ في الله.
لماذا الصفا والمروة من شعائر الله؟
قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158] ليس مجرد إخبار، بل هو تأكيد وتشريف وتنزيه لهاتين البقعتين، وللشعيرة المرتبطة بهما.
فالشعائر هي معالم الدين الظاهرة التي أمر الله بتعظيمها والقيام بها. وعندما يصف الله شيئًا بأنه من شعائره، فذلك يعني الآتي:
1- أنه جزءٌ لا يتجزأ من دين الله، وأنه ركنٌ من أركان العبادة.
2- أنه وسيلةٌ لتعظيم الله وتوحيده.
3- أنه يحمل في طياته دروسًا إيمانية عميقة، لها أبعاد روحية ومعنوية تؤثر في قلب المؤمن وسلوكه.
4- أنه محلٌّ لتجليات رحمة الله وبركته؛ ففي الصفا والمروة ظهرت رحمة الله بهاجر وإسماعيل بماء زمزم.
السر يا أخي الحبيب، أنَّ الله تعالى يعلم ما في قلوب عباده من ضعفٍ ونسيانٍ، ولذلك جعل هذه الشعائر تذكيرًا دائمًا ومستمرًا بالقيم الإيمانية العظيمة: التوكل، والصبر، والمثابرة، والإخلاص، والشعور بالافتقار إلى الله. فكل خطوة في السعي، وكل هرولة، هي تجديدٌ للعهد مع الله، وتأكيدٌ على التسليم لأمره.
وختامًا أيها السائل الفاضل، إنّ عظمة الإسلام تكمن في عمق تشريعاته، وفي حكمته البالغة في كل أمرٍ نهى عنه أو أمر به. وما السعي بين الصفا والمروة إلا غيضٌ من فيض حكم الله التي لا تُحصى ولا تُعَد. نسأل الله أن يزيدك فهمًا وبصيرة، وأن يرزقنا جميعًا حلاوة الإيمان ولذة الطاعة، وأن يتقبل منا ومنك صالح الأعمال. دمتم في رعاية الله وحفظه.