الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : روح العبادات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
91 - رقم الاستشارة : 1903
15/05/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أكتب إليكم وأنا أستعدّ –بإذن الله– للسفر إلى الحج هذا العام بعد طول انتظار. لقد منَّ الله عليَّ بهذا الفضل بعد سنوات من الترقب والدعاء، وأنا الآن أشعر بمسؤولية عظيمة تجاه هذه الرحلة التي أعتبرها "نقطة تحوّل" في حياة الإنسان.
لكن في المقابل، رأيت بعض الأقارب والمعارف ممن حجّوا ثم عادوا إلى حياتهم كما كانوا، دون تغيّر يُذكر في سلوكهم أو عبادتهم أو نظرتهم للحياة. وهذا ما أثار في نفسي سؤالًا:
ما الذي يصنع الفرق بين حاجٍ يعود وقد غُفرت ذنوبه، ورقّ قلبه، وارتقى في سلم القرب من الله، كأنه وُلِد من جديد، وبين حاجٍ يرجع كما ذهب، لم يتغيّر منه شيء؟
هل الأمر متعلّق بالنية؟ أم بفهم الشعائر؟ أم بحال القلب؟
وأين يمكن أن أركّز جهدي ونيّتي حتى أكون –بعون الله– من الفريق الأول؟
أنا أحتاج إلى توجيه دقيق، لا أريد أن تكون هذه الرحلة مجرد انتقال مكاني، بل فتحًا روحيًّا حقيقيًّا. جزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أخي الفاضل، وجزاك الله خيرًا على تواصلك معنا وثقتك الغالية. أسأل الله أن يوفقك في حجك هذا، وأن يكتب لك من واسع رحمته برًّا وسلامة، وأن يجعل حجك مبرورًا وسعيك مشكورًا، وأن يعود قلبك إلى الله بحالة من الطمأنينة، فتكون هذه الرحلة بابًا للفتح الروحي والتجديد في الحياة، وبعد...
فإنه من المفرح حقًّا أن تكون قد نلت هذا الفضل العظيم، فالحج هو ركن من أركان الإسلام، وهو رحلة لا مثيل لها في حياة المسلم، تمنح الإنسان فرصة نادرة للقاء مع الله، وتحقيق تغيير عميق في النفس والروح.
وسؤالك -أخي الفاضل- يحمل في طياته مفاهيم مهمة، تتعلق بفهم عمق تجربة الحج وتحديد العوامل التي تُحدِث هذا التغيير الروحي العميق، وكيفية تحقيق ذلك بشكل حقيقي في حياتنا.
النية أساس كل عمل:
النية هي أساس وجوهر كل عمل نقوم به في حياتنا، كما قال ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» [متفق عليه]. والنية ليست مجرد شعور داخلي، بل هي ما يحرك القلب ويحدد مسار العمل. فإذا كانت نيتك في الحج نية مخلصة لله تعالى، وكنت تسعى من خلال هذه الرحلة إلى أن تقف أمام الله -سبحانه وتعالى- وأنت في أتم الاستعداد للتوبة والرجوع إليه، فإن هذا سيتجلى في سلوكك وأعمالك بعد العودة.
إن الحج لا يمكن أن يكون مجرد رحلة سياحية أو انتقال مكاني، بل يجب أن يكون نقطة تحول في حياتك، وتوبة نصوحًا، وعهدًا مع الله أن تُصلح ما فسد في حياتك، وأن تتخلص من العادات السلبية والتقصير في العبادة.
لذلك، أول خطوة في الوصول إلى التغيير الحقيقي بعد الحج هي أن تخلُص نيتك لله تعالى. اجعل حجك خطوة نحو التقرب لله، واطلب من الله في كل لحظة أن يغفر لك ذنوبك، ويعينك على التغيير الجذري في حياتك. النية هي المفتاح الذي يفتح أبواب التغيير.
ولفهم الشعائر تأثير:
الحج ليس مجرد أداء شعائر؛ بل هو تفاعل روحاني عميق مع كل ركن من أركانه، وشعيرة من شعائره: الطواف حول الكعبة، السعي بين الصفا والمروة، الوقوف بعرفة، رمي الجمار؛ كلها شعائر تحمل في طياتها معاني عظيمة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162]، والنسك في هذه الآية هو كل ما يفعله المسلم من عبادات، من صلاة وصوم وحج وغيرها، وهو تعبير عن الخضوع التام لله.
لذلك، يجب على الحاج أن يفهم معنى كل شعيرة على حدة، ويستحضر في قلبه أنها ليست مجرد طقوس، بل هي تمارين روحية تهدف إلى تطهير النفس وتزكيتها.
عندما تطوف حول الكعبة، تذكَّر أنك تطوف في بيت الله، حيث تلتقي مع قلوب المؤمنين من كل أنحاء الأرض، وتطلب من الله القبول والرحمة. وفي السعي بين الصفا والمروة، تذكر كيف كان هذا السعي فعلًا للبحث عن الهداية والتوكل على الله، كما بحثت هاجر -رضي الله عنها- في الصحراء. وفي الوقوف بعرفة، تذكر أنك ستقف أمام الله في يوم عظيم، فاحرص أن يكون قلبك مليئًا بالتوبة والدعاء. يقول النبي ﷺ: «الحج عرفة» [رواه الترمذي]. فالوقوف بعرفة شعيرة مباركة، من خلالها تُغفر الذنوب وتُحقق التوبة، لذا يجب أن يكون هذا اليوم هو بداية جديدة في حياتك.
القلب العنصر الأهم:
حال القلب هو العنصر الأهم في تغيير الإنسان بعد الحج؛ بل هو العامل الأساسي الذي يُحدِث الفرق بين حاج يعود وقد غُفرت ذنوبه وارتقى في سُلم القرب من الله، وبين حاج يعود كما كان.
القلب في الإسلام هو مركز الإيمان، وهو المسؤول عن تصفية النية وتوجيه الأفعال. قال رسول الله ﷺ: «إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» [متفق عليه].
فإذا كانت حال قلبك مليئة بالخشية من الله، فإن هذه الرحلة ستكون بمثابة نقطة انطلاق في حياتك نحو تقوية هذا الرابط الروحي مع الله. يجب أن تكون متأملًا في تلك اللحظات التي ستكون فيها خاليًا من أي شيء سوى لقائك مع الله، بعيدًا عن مشاغل الدنيا وهمومها. عليك أن تُصفِّي قلبك من أي حقد أو غل أو معاصٍ سابقة، وأن تُقبل على الله بصدق.
من خلال التوبة الحقيقية والتضرع لله، سيكون قلبك في أفضل حالاته، وستعود من هذه الرحلة وكأنك وُلدت من جديد.
اجعل قلبك مملوءًا بالتوبة والرجاء في رحمة الله، وكن صادقًا في التغيير الذي تطلبه، واحرص على الاستمرار في الطاعات بعد انقضاء أيام الحج وعودتك إلى بلدك، والصدقة، والصلاة، وقراءة القرآن، وذِكر الله؛ كلها وسائل لتثبيت التغيير.
وختامًا أخي الفاضل، إن الحج فرصة ذهبية لتغيير حياتك بالكامل، ولن يتحقق ذلك إلا إذا كانت نيتك صادقة، وفهمك للشعائر عميقًا، وقلبك مستعدًا للتوبة والرجوع إلى الله.
نسأل الله أن يكتب لك حجًا مبرورًا، وأن يعينك على الاستفادة من هذه الرحلة العظيمة، فيعود قلبك أكثر قربًا من الله، ويظل هذا التحول يرافقك طيلة حياتك. اللهم آمين.