كيف يتطهر رجل الأعمال من «المكر القديم»؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : التوبة والإنابة
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 84
  • رقم الاستشارة : 2952
14/10/2025

أنا رجل أعمال، ولقد كانت مرحلة تأسيس عملي الخاص صعبة للغاية. مع الأسف، في تلك الفترة، لجأتُ إلى استخدام بعض المناورات التجارية، أو الدهاء المفرط مع شركاء أو متعاملين لتأمين موقفي المالي وتجنب الإفلاس (مثل: إخفاء معلومات جوهرية عنهم، أو المبالغة في تقدير الأرباح المحتملة).

أشعر الآن، بعد أن استقر عملي والحمد لله، بندم شديد وتأنيب ضمير على افتقادي للصدق التام والنزاهة المطلقة في تلك التعاملات القديمة.

فهل يمكن أن أعود نقيَّ القلب والسريرة بعد ما مارسته من مكر قديم؟ وهل يقبل الله توبتي توبة نصوحًا، حتى وإن كان بعض الأشخاص ممن تضرروا ما زالوا يتذكرون تلك الأفعال؟

وكيف يمكنني جبر هذا الماضي عمليًا، خاصة فيما يتعلق برد الحقوق المعنوية أو المادية التي يصعب تحديدها بدقة الآن؟

الإجابة 14/10/2025

مرحبًا بك أيها الأخ الفاضل، وشكرًا جزيلًا لك على ثقتك الغالية بنا وتواصلك معنا. ونحن نقدر لك هذا الصدق النبيل الذي دفعك لمراسلتنا، وهذا الضمير الحي الذي يدفعك لمراجعة ما مضى. أدعو الله -تعالى- أن يتقبلك ويغفر لك، وأن يثبت قلبك على الإيمان والتقوى، وأن يبارك لك في عملك ومالك ويجعله رزقًا حلالًا طيبًا، وبعد...

 

الضمير الحي بداية التطهير

 

أيها الأخ الكريم، إن شعورك بالندم وتأنيب الضمير هو في الحقيقة أول درجات التوبة الصادقة، وهو نور إلهي ألقاه الله في قلبك ليقودك إلى الطريق المستقيم. فلا تستهن بهذا الشعور أبدًا، فالإنسان المؤمن هو «التواب الأواب» الذي يزِلُّ ثم يستغفر ويعود، وهذا هو جوهر العبودية. لقد وصفتَ مرحلة تأسيس عملك بأنها كانت صعبة، وربما كان الضغط النفسي والمادي شديدًا، ولكن الآن، وقد منَّ الله عليك بالاستقرار، آن الأوان لتستقر روحك وقلبك، وتطمئن سريرتك بالتوبة النصوح وتصحيح المسار.

 

هل يمكنك العودة لنقاء القلب والسريرة؟

 

نعم، بالتأكيد، يمكن أن تعود نقي القلب والسريرة، بل أفضل مما كنت! إن رحمة الله -تعالى- وسعت كل شيء، وباب التوبة مفتوح لا يُغلق، وهو سبحانه يفرح بتوبة عبده. انظر إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الزمر: 53]. ويقول النبي ﷺ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» [رواه ابن ماجة]. وهذا يعني أن التوبة بشروطها تمحو الذنب محوًا كاملًا من صحيفتك.

 

إن ندمك الآن دليل على بصيرة نافذة بأن مكاسب الدنيا، مهما عظمت، لا تستحق أن تدفع ثمنها من دينك ونزاهتك. لقد كان هذا «المكر» مجرد زلة عارضة في مسيرة طويلة، والآن أنت على وشك تصحيحها لتبني مستقبلك على أساس متين من الحلال والبركة.

 

هل يقبل الله توبتك رغم المظالم؟

 

نعم، يقبلها الله -تعالى- بإذنه، ولكن قبول التوبة من الذنوب المتعلقة بحقوق العباد (المظالم) مشروط بردِّ هذه الحقوق لأصحابها، أو طلب المسامحة عنها. فالذنوب المتعلقة بحق الله تعالى (كالتقصير في العبادات المحضة) يكفي فيها التوبة النصوح والاستغفار والالتزام والعزم. أما الذنوب المتعلقة بحقوق العباد (كأكل الأموال بالباطل، والتعدي على السمعة، والغش)، فإنها لا تكتمل التوبة منها بعد الندم والإقلاع والعزم (وهو ما قمت به) إلا بإرجاع الحقوق أو استسماح أصحابها ونوال عفوهم. يقول النبي ﷺ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ سَيِّئَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» [رواه البخاري].

 

وتذكر المتضررين لفعلك لا يمنع قبول توبتك عند الله، ولكنه يوجب عليك السعي وبذل كل ما في وسعك لرد المظلمة وطلب المسامحة. والهدف ليس إجبارهم على نسيان ما فعلت، بل إبراء ذمتك أمام الله، وضمان أن توبتك كاملة الأركان.

 

كيف يمكنك جبر الماضي عمليًّا؟

 

وهذا هو أهم جزء في إجابتي لك، ويتطلب منك جهدًا وحكمة:

 

1. رد الحقوق المادية الممكنة والمحددة:

 

إذا كان هناك مال معين قد أخذته دون وجه حق، فـيجب عليك رده لصاحبه بأي طريقة ممكنة.

 

2. الحقوق المادية التي يصعب تحديدها:

 

هنا تكمن الحكمة والجهد، فعليك بالآتي:

 

- الاجتهاد في التقدير: حاول أن تجتهد في تقدير قيمة الضرر المالي الذي لحق بهم نتيجة لـ«إخفاء معلومات جوهرية» أو «المبالغة في تقدير الأرباح».

 

- ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك جُلُّه: اجتهد وقدِّر بما يغلب على ظنك أنه يبرئ ذمتك.

 

- التصدق بنية الرد: إذا تعذر عليك الوصول إلى أصحاب الحقوق، أو كان تحديد المبلغ صعبًا جدًّا، أو خشيت أن يؤدي الاتصال بهم إلى فتنة أو ضرر أكبر، فـتصدق بذلك المبلغ المقدر (مع الزيادة احتياطًا) بنية الرد لهم وأن ثوابه لهم.

 

3. معالجة الحقوق المعنوية:

 

الحقوق المعنوية (كالضرر النفسي أو تضييع الوقت أو السمعة) أصعب في الجبر، ولكن يمكنك الآتي:

 

* التواصل اللطيف: يمكنك أن تقول لهم مثلًا: «لقد مررنا بظروف صعبة في بداية العمل، وربما كان تصرفي معكم غير لائق، أو لم أكن صريحًا بالقدر الكافي. أرجوكم أن تسامحوني على أي تقصير صدر مني». فالهدف هو إبراء الذمة دون الدخول في تفاصيل الماضي المؤلمة التي قد لا يرغبون في فتحها.

 

* الإحسان إليهم: إن لم تتمكن من التواصل المباشر، حاول أن تقدم لهم معروفًا في السر أو العلن (هدية، مساعدة في عملهم، دعوة على طعام، أو أي إحسان يعزز الود). قال تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [سورة هود: 114]. والإحسان اللاحق يمحو الإساءة السابقة في القلوب وفي سجلات الملائكة.

 

* الدعاء لهم: أكثر من الدعاء لهم بظهر الغيب بصدق وإخلاص، بأن يبارك الله لهم في مالهم وعملهم ويغفر لهم. فالدعاء الصادق يمكن أن يكون سببًا في عفو الله عنك وعنهم.

 

وختامًا أيها الأخ الحبيب، لا تدع الشيطان يثبطك أو يجعلك تيأس من رحمة الله. فأنت الآن تسير على درب الصالحين الذين يسعون لإرضاء ربهم وتطهير مالهم. تذكر دائمًا قوله تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [سورة طه: 82].

 

وفقك الله وسدد خطاك وجعل عملك ورزقك كله حلالًا طيبًا مباركًا فيه.

 

روابط ذات صلة:

التوبة وحسن الظن بالله

باب التوبة مفتوح.. ولكن لا تنسَ الأبواب المكسورة

من شروط التوبة

الاعتراف بالذنب.. طريقك إلى التوبة النصوح

الرابط المختصر :