الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : التوبة والإنابة
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
196 - رقم الاستشارة : 2373
15/08/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا شاب ثلاثيني، كنت ملتزم نسبيًّا لكن وقعت في شوية ذنوب من سنين، مش كبائر قوي، ومع إني بندم وبتوب وبعاهد ربنا إني ما أرجعلهاش، برجع أضعف وأعملها تاني. الموضوع بيتكرر كتير لدرجة إني بقيت أشك إذا كنت بتوب بجد ولا لأ، وبقيت خايف أموت وأنا على الحال ده.
إزاي أفرّق بين التوبة الصادقة والندم اللحظي؟ وهل رحمة ربنا تشمل اللي بيغلط ويتوب ويرجع يغلط تاني؟ وهل فيه أمل ربنا يحبني ويرضى عني؟
وعليكم السلام ورحمةُ الله وبركاته، ومرحبًا بك أخي الكريم، وأسأل الله أن يشرح صدرك، ويطهر قلبك، ويثبتك على طريق التوبة، وأن يجعل لك من كل ضيقٍ مخرجًا ومن كل هَم فرجًا، وأن يختم لنا ولك بالحسنى، وبعد...
فإني أولًا أحب أن أطمئنك بأن انقباض قلبك من الذنب، وشعورك بالخوف من أن تموت على حالٍ لا يرضيه سبحانه، علامتان كبيرتان على أن جذوة الإيمان في قلبك متقدة، تبقيه حيًّا خاشعًا، يقول النبي ﷺ: «من سرَّتْه حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» [رواه أحمد]. وأبشرك بقول ربنا جل وعلا: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر: 53].
أخي الحبيب، إن سقوط المؤمن في الذنب وارد ولا شك، ولكن الفرق بين المؤمن القوي والمؤمن الضعيف أن القوي كلما تعثر قام، وطرق باب ربه مرة بعد مرة، واستأنف العمل، لا يمل ولا ييأس؛ وسبحانه القائل: ﴿وهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ويَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].
كيف تفرق بين «التوبة الصادقة» و«الندم اللحظي»؟
إن للتوبة الصادقة علامات وشروط، كما للندم العابر أمارات تكشفه، فمن شروط التوبة النصوح: الإقلاع عن الذنب فورًا، والندم على ما مضى، والعزم الجازم على عدم العودة إلى المعصية، وردّ المظالم والحقوق إن تعلَّق الذنب بحقِّ مخلوق.
فمن استوفى هذه الشروط فهو تائب توبةً صحيحةً بإذن الله، ولو غلبته نفسه بعد زمن فعاد فزل؛ إذ التوبة تتعلَّق بالحال وقتها، لا بما سيأتي من المستقبل.
ومن علامات صدق التوبة:
1- المسارعة إلى الصالحات والإكثار منها، وقد قال عز وجل: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]. وقد وعد الله -عز وجل- التائبين العاملين وعدًا عظيمًا: ﴿إلا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا . ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾ [الفرقان: 70 و71]. وقال الرحمن الرحيم: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82].
2- قطعُ أسباب المعصية وطرقها، وتغيير البيئة التي كانت تجرُّ إليها، مصداقًا لقوله سبحانه: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
3- دوامُ الاستغفار والدعاء والتضرّع.
4- تناقصُ وتيرة السقوط بعد التوبة، مع سرعة الرجوع بعده، وازدياد الكراهية للمعصية.
أما «الندم اللحظي» فيظهر في:
1- استمرار التمسك بأسباب المعصية والإقامة عليها بلا حسمٍ ولا تغيير.
2- انطفاء أثر الندم بعد ساعات.
3- تعليل الذنب وتبريره.
وتأمَّل يا أخي قوله –تعالى- في وصف أوليائه: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]؛ فالعِبرة بترك الإصرار، لا بانتفاء الوقوع مطلقًا.
هل رحمة الله تشمل من يعاود الذنب بعد التوبة؟
نعم بالتأكيد؛ فقد بشَّرنا نبيُّنا ﷺ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» [رواه مسلم]. وليس في هذا ترخيصٌ للذنب وإباحة له؛ بل فيه فتح باب الرجوع كلَّما ضعفت، مع وجوب مجاهدة النفس وقطع أسباب المعصية.
وتأمل قصة الرجل الذي قتل مائة نفس، ثم صَدَق في الطلب وهاجر عن أرض السوء، فغفر الله له وقبضه في طريق الهجرة، فكان من أهل الرحمة. ومغفرة الله لهذا الرجل كانت لصدق التوبة والسعي العمليِّ لتغيير البيئة.
هل هناك أملٌ أن يُحبّك الله ويرضى عنك؟
يا أخي، إن هذا الأمل الذي تسأل عنه ليس مجرّد احتمال؛ بل هو وعدٌ قرآنيّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]. ويقول ﷺ: «لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من أحدكم وقع على بعيره وقد أضلّه في أرضٍ فلاة» [متفق عليه]. وهل يَحرِم من محبَّته من يُفرحه بتوبته مرة بعد مرة؟!
وأبشر بقوله -سبحانه- في الحديث القدسي: «يا ابنَ آدمَ إنَّكَ ما دعوتَني ورجوتَني غفَرتُ لَكَ على ما كانَ فيكَ ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغت ذنوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثمَّ استغفرتَني غفرتُ لَكَ، ولا أبالي، يا ابنَ آدمَ إنَّكَ لو أتيتَني بقرابِ الأرضِ خطايا ثمَّ لقيتَني لا تشرِكُ بي شيئًا لأتيتُكَ بقرابِها مغفرةً» [رواه الترمذي].
وختامًا أخي الحبيب، لا تسمح لليأس بأن يتسلل إلى قلبك؛ تُب كلما ضعُفت، واصبر وصابر ورابط، فربنا وعدنا: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69]. أسأل الله اللطيف أن يثبِّت قلبك على دينه، وأن يكفيك شر نفسك وشر الشيطان، ولا تنسنا في دعائك، وتابعنا بأخبارك.