الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : فكرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
139 - رقم الاستشارة : 1907
12/05/2025
كيف تتجلى المفاهيم الكبرى في الإسلام والمساواة ووحدة الأمة في فريضة الحج؟
الحج رحلة تغيير عميقة تبدأ في داخل الإنسان، لتنطلق إلى ما حوله من قيم وأفكار وواقع، إنه ميلاد جديد؛ لذا لم يكن غريبًا أن يشبه النبي ﷺ المسلم الذي حج فلم يرفث ولم يفسق أنه يعود كيوم ولدته أمه.
والحج رحلة تغيير لمن يفهم مقاصدها الكبرى، يقول المفكر "علي شريعتي": "الذي لا يدري جوهر الحج يعود من مكة بحقيبة ممتلئة بالهدايا وعقل فارغ".
والحقيقة أن الحج رحلة تأمل عميقة، تغير اتجاهات الإنسان، وهو خطوة كبرى لتغيير اتجاهات الأمة المسلمة.
والحج رحلة نحو الله مشبعة بالرمزيات، ومنها رمزية خلق آدم، وبداية الخلق، ورمزية وحدة الأمة؛ فالحج يحوي جميع الجنسيات من أقطار الأرض، وهو عرض مصغر لأمة الإسلام بقوتها وعنفوانها وطاقاتها البشرية والحماسية الهادرة؛ فعدد الحجيج قد يقترب من 2% من حجم الأمة المسلمة، وهؤلاء طاقة وقوة عظيمة يعبرون عن رمزية الوحدة للأمة المسلمة، التي يذوب فيها عوامل التفرقة والاختلاف، لذا ترى الجميع بثوب واحد يتكون من قطعتين بلا مخيط وذي لون أبيض لا تستطيع أن تميز منهم أحدًا، والجميع يؤدون المناسك في زمان ومكان واحد.
ونقتبس هنا بعضًا مما كتبه "علي شريعتي" حول فلسفة الحج، فهو يرى أن الحج دعوة لكي يهجر الإنسان مظاهر الزيف التي تلفُّ حياته، وذلك بنزع الأقنعة الأربعة التي يرتديها في حياته اليومية، وهي: قناع الذئب الذي يرمز إلى الوحشية والطغيان، وقناع الخروف الذي يرمز إلى الخنوع والذلة، وقناع الثعلب الذي يرمز إلى الخديعة، وقناع الفأر الذي يرمز إلى المكر.
أما ما يتعلق بمسألة وحدة الأمة، فقد طرحها "شريعتي" بصورة بليغة، عندما أكد أن القطرة لا تصنع شيئًا إلا إذا كانت جزءًا من كيان كبير، والفرد سيبقى فردًا ما لم يكن جزءًا من أمة أكبر، يقول شريعتي: "إن قطرة الماء إذا لم تكن جزءًا من النهر أو لم تكن ذائبة في البحر، فإنها تصبح كقطرة الندى تبقى ما بقي الليل فقط، وتتلاشى مع أنفاس الصباح الأولى".
والمــساواة إحدى القيم الكبرى التي يبثها الحج في نفوس المسلمين أجمعين في تلك اللحظات، حيث تتلاشى الفوارق وتصبح علاقة الفرد بخالقه سبحانه وتعالى علاقة مباشرة لا وساطة فيها، ولهذا نجد أن مبدأ المساواة ركّز عليه النبي ﷺ في خطبة الوداع، حيث قال: "أيها الناس، لا فضل لعربيّ على أعجميّ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح".
مبدأ مساواة الناس جميعًا في الحج، أثار انتباه المفكرين، لجلال الموقف وهيبته وكذلك رمزيته التي تذوب فيها الفوارق التي تقسم الناس وتحولهم إلى طبقات، وهنا أتذكر ما كتبه الأديب "يحيى حقي" في كتابه "من فيض الكريم" حين قال: "حجّاجنا أغلبهم فقراء، من الفلاحين، يذوقون لأوّل مرة بفضل الحج نعمة المساواة بأسيادهم الأغنياء"، ربما تلخص تلك المقولة الفوارق الطبقية التي يذوبها الحج ليذكر بحقيقة المساواة بين البشر.
أما المساواة بين البشر بعيدًا عن الفوارق اللونية، فنجدها في سيرة الأمريكي المسلم "مالكوم إكس" الذي أسلم، وكان يظن أن الإسلام هو دين الرجل الأسود، وعندما جاء لأداء فريضة الحج في منتصف الستينيات من القرن الماضي أخذت تتكسر عنده الفكرة العنصرية، ليرى أن الإسلام هو دين الإنسان بكافة ألوانه، يقول "مالكوم": "لقد وسّع الحج نطاق تفكيري وفتح بصيرتي فرأيت في أسبوعين ما لم أره في تسع وثلاثين سنة.. في حياتي لم أشهد أصدق من هذا الإخاء بين أناس من جميع الألوان والأجناس، إن أميركا في حاجة إلى فهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يملك حل مشكلة العنصرية فيها".
ثم يقول: "خلال الإثني عشر يومًا التي قضيتها في العالم الإسلامي أكلت من إناء واحد وشربت من كأس واحدة ونمت على سجاد واحد وأنا أعبد ربًّا واحدًا مع مسلمين عيونهم زرقاء وشعورهم شقراء وجلدهم أبيض.. رجال وجدت في إخلاصهم الإخلاص نفسه الذي وجدته عند المسلمين السود القادمين من نيجيريا والسودان وغانا.. وأذكر ليلة نمنا فيها في المزدلفة تحت السماء واكتشفت أن الحجاج المنتمين إلى كل أرض ولون وطبقة ورتبة، الموظفين السامين منهم والمتسولين على السوء، كلهم يُغطّون بلفة واحدة".