23 فبراير 2025

|

24 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة 06/01/2025

منسوب إلى الدعوة نظريًّا الأصل أن أطبّق، لكن كيف أدعو إلى الله وأنا مقصّر في حق ربي سبحانه، أشيروا عليّ، ماذا أصنع؟

الإجابة 06/01/2025

بسم الله الرحمن الرحيم

أخي السائل الكريم

أيها السائر على طريق الصالحين والمصلحين

يا سالكا طريق الأنبياء والمرسلين...

اسمح لي ابتداء: أن أشكرك على هذا السؤال الذي يعبر عن حالة الآلاف من ممارسي الدعوة، بل وممارسي التربية والإصلاح؛ فليس في الأرض من صاحب عصمة بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، وكل بني آدم خطّاء، غير أنّ خير الخطائين التوابون.

وإني أراك -أخي الهُمام- تحمل هَمًّا في قلبك، وحرقة في صدرك، تتألم من تقصيرك في حق ربك، وتشعر أنك لا تستحق أن تدعو إليه ما دمت تخطئ وتذنب. أحيي فيك هذا الشعور، فهذا دليل حياة قلبك وصدق نيتك، لكن اسمح لي أن أخاطب عقلك وقلبك معاً، لأقول لك: لا تترك الدعوة مهما قصّـرت؛ بل اجعلها سبيلاً للإصلاح والتوبة.

وإنه لمن عظيم النعم أن يُنسب الإنسان إلى الدعوة إلى الله تعالى، فهذه مهمة الأنبياء والمرسلين، لكن اعلم –يا أخي– أن الدعوة إلى الله ليست مجرد ألقاب أو كلمات تلقى على المنابر؛ بل هي منهج حياة يبدأ من إصلاح النفس قبل إصلاح الغير، وقد كان السلف الصالح يقولون: ((من أصلح سريرته أصلح الله علانيته))، لذلك، قبل أن نبلغ الناس بالحق، يجب أن يكون في قلوبنا وعملنا صدق مع الله.

ودعني أتساءل معك: من الذي قال بأن الداعي إلى الله يجب أن يكون معصومًا؟ كما أتساءل وإياك: من منا بلا ذنوب؟  والجواب معروف بلا شك أو تلعثم، ولذا إليك الجواب بوضوح شديد:

أولا: أنت بشـر ولست بنبي أو ملَك: إنك حين تنظر إلى نفسك وتجد عيوباً أو تقصيراً، فهذا أمر طبيعي، فأنت بشـر، ولست نبيًّا معصوماً. حتى الصحابة رضي الله عنهم، وهم أعظم دعاة الإسلام، كانوا بشـراً وربما خالفوا الصواب -بلا تعمّد- ورغم ذلك لم يتوقفوا عن الدعوة إلى الله.

ثانيًا: الذنوب لا تمنع الدعوة بل تزيد الحاجة إليها، فإذا كنت تشعر بالذنب، فإن أفضل طريقة لمداواة قلبك هي أن تنقل نور الحق إلى غيرك، فكما أن الطبيب قد يعالج غيره وهو بحاجة إلى علاج، فكذلك الداعي إلى الله قد يكون بحاجة إلى من يذكّره، لكنه لا يتوقف عن دعوة الناس، فــ ((لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا، خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم)) فيا أخي، إن هداية إنسان واحد قد تكون سبباً في غسل ذنوبك كلها، فكيف تفكر في ترك هذا الأجر العظيم؟

ثالثًا: لا تدع الشيطان يثنيك عن طريق الدعوة: اعلم أن الشيطان لا يفرح بشـيء أكثر من أن يثنيك عن الدعوة؛ لأنه يعلم أن الداعية نور يهدي الناس إلى طريق الحق. لذلك يُدخل في قلبك هذا الشعور، تسمع وسواسه، وهو يناديك: كيف تدعو إلى الله وأنت تخطئ؟ كيف تنصح الناس وأنت لست كاملاً؟ وكما قال ابن الجوزي (رحمه الله): (ربما فاز الشيطان بمثل هذا)، فالحقيقة هي أن الشيطان يريد أن يُبعدك عن خير عظيم، ولو استسلم كل داعية لهذه الوسوسة، لما بقي أحد يدعو إلى الله! بل إن الله أمرنا أن نعمل ونتوب في آن واحد: ((إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا)).

رابعًا: الدعوة علاج للنفس قبل أن تكون خطاباً للغير، أخي الداعية: هل تعلم أن الدعوة نفسها تُصلح قلبك؟ فحين تقف أمام الناس لتدعوهم إلى الصلاة، تجد نفسك أول من يتأثر بهذا النداء، وحين تدعوهم إلى تقوى الله، تجد نفسك تتذكر ما قصرت فيه وتبادر إلى التوبة، يقول الحسن البصـري رحمه الله: (كنا إذا طلبنا العلم، كان العلم يأمرنا بالعمل، فإذا قصرنا في العمل، لم نجد لذة العلم)، لذلك، لا تظن أن الدعوة عبء ثقيل؛ بل هي وقود إيماني يشحن قلبك بالطاعة.

خامسًا: كيف تكون مجاهدا دون مجاهدة نفسك وأنت تمارس الدعوة؛ فلا تنس أن الله يحب أن يراك مجاهدًا، وكما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] والدعوة جزء من الجهاد، فهل ستفرّط -تلبية لصرخات الشيطان- وتتناسى صرخات المكلومين والمجروحين والتائهين ممن يحتاجون إليك وإلى دعوتك.

سادسًا: أصلِح نفسك وأنت تدعو غيرك: فالدعوة لا تعني أنني أدعو الناس وأغفل عن نفسي، بل هي إصلاح مستمر للنفس والغير معًا، قال تعالى: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) إنها دعوة متبادلة، فأنت تدعو غيرك، وهم يدعونك أيضاً.

وأخيرا:

أنادي فيك القلب والحب والعاطفة الدعوية والإيمانية..

أخي الداعية المبارك: لا تترك الدعوة مهما ضعفت، ولا تتراجع مهما شعرت بالتقصير. إن من أعظم النعم أن يستخدمك الله في هداية عباده، فكيف تفرط في هذه النعمة؟

وتذكر: مَن نحن لولا ستر الله؟ من نحن لولا توفيق الله؟ من نحن لولا أن جعلنا الله سبباً في نشـر دينه؟ فلا تجعل تقصيرك حجة لترك الدعوة، بل اجعل الدعوة وسيلة لتعويض تقصيرك.

فاللهم اجعلنا من الدعاة إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة، واهدنا واهِد بنا، ووفقنا للعمل بما نقول، ولا تجعلنا من الذين يقولون ما لا يفعلون. اللهم استعملنا ولا تستبدلنا، واغفر لنا ذنوبنا، ووفقنا لخدمة دينك يا رب العالمين.