الإستشارة - المستشار : د. عادل عبد الله هندي
- القسم : التخطيط الدعوي
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
82 - رقم الاستشارة : 3032
21/10/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنا عبدٌ من عباد الله أنعم عليّ برزقٍ عظيم، وهو أن وفقني سبحانه إلى حفظ كتابه الكريم وفهم معانيه على وجهٍ حسن، فكنت أقرأه في صلاتي وأتلوه في خلواتي وأتدبر معانيه بقدر ما أستطيع. لكنني – ومع كل هذا – أشعر بألمٍ داخلي وحسرة؛ إذ أجد نفسي عاجزًا عن الانتقال من مرحلة الحفظ والفهم إلى مرحلة التطبيق العملي.
هناك فجوة واسعة بين ما أحفظه من آيات وبين ما أعيشه في واقعي. أقرأ في القرآن الدعوة إلى الصبر فأجد نفسي ضعيفًا عند الابتلاء، وأقرأ الأمر بالعدل فأكتشف أنني قد أظلم في مواقف صغيرة، وأتلو آيات الرحمة فأشعر أن قلبي لم يبلغ تلك الرحمة بعد.
أدرك يقينًا أن القرآن لم ينزل ليُتلى بالألسنة فقط، وإنما ليكون منهج حياة يُترجم في السلوك والمواقف. لكن مشكلتي أنني لا أعرف الكيفية أو المنهجية التي تُعينني على أن أُحوِّل القرآن إلى واقع عمليٍّ في حياتي، فأكون ممن وصفهم الله بقوله: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ﴾ [البقرة: 121] فكيف أطبق القرآن عمليًّا؟ وما الطريق أو المنهاجية التي تعينني على سد هذه الفجوة بين الحفظ والفهم والتطبيق؟
جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أخي المبارك، حيّاك الله وأكرمك، وأسأل الله أن يشرح صدرك، ويُيسر أمرك، ويجعل القرآن الكريم ربيع قلبك، ونور صدرك، وجلاء حزنك، وذهاب همك وغَمّك. لقد سألت عن أمرٍ عظيم هو غاية الغايات، ومقصد التنزيل، فهنيئًا لك أن بلغك الله هذه الدرجة من التفكير والحرص على الصدق مع كتابه.
اعلم أن مشكلتك -وإن كانت تؤلمك- هي في حقيقتها علامة صحة؛ لأن الإحساس بالفجوة بين الحفظ والتطبيق وعيٌ إيمانيٌّ راقٍ، لا يبلغه إلا من عاش مع القرآن بصدق. فالذي يعيش على ظاهر التلاوة دون شعور لا يستشعر أصلًا وجود هذه الفجوة.
دعنا نسر معًا في خطوات متدرجة متكاملة:
القرآن منهج للحياة لا كتاب معلومات
أول ما ينبغي أن تستحضره أن القرآن لم ينزل ليكون نصًّا يُحفظ كحفظ الشعر أو النثر، وإنما هو كتاب هداية ومنهج إصلاح، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9] فالقرآن يريد أن يوجّهك في سلوكك اليومي، في تعاملك مع نفسك، وأهلك، والناس، بل حتى مع ربك. فإذا قرأت آية، فاسأل نفسك: ماذا تريد مني هذه الآية اليوم؟
القدوة النبوية: التطبيق العملي للقرآن
أعظم مثال تطبيقي للقرآن هو رسول الله ﷺ. قالت عائشة رضي الله عنها حين سُئلت عن خلقه: (كان خلقه القرآن) أي أنه كان ترجمة حية للقرآن. فإذا أردت أن ترى كيف تُطبق آيات الصبر، فانظر إلى صبره في الطائف. وإذا أردت أن ترى كيف يُترجم الإحسان، فتأمل عفوه يوم فتح مكة. وإذا أردت أن ترى كيف يُفعل التوكل، فانظر إليه في الهجرة.. فالتأسي بالنبي ﷺ هو الطريق الأوضح لتفعيل القرآن عمليًّا.
المنهجية التدريجية في التطبيق
لا تتوقع أن تنتقل دفعة واحدة من الحفظ إلى التطبيق الكامل، فهذا يحتاج إلى تدرج. منهج الصحابة كان يقوم على:
* التعلم قليلاً والعمل كثيرًا: قال ابن مسعود رضي الله عنه: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن» (رواه الطبري).
* البدء بالأولويات: ركّز أولًا على تطبيق الأساسيات: الصدق، الأمانة، ضبط اللسان، بر الوالدين. هذه تطبيقات مباشرة وآنية.
* التحويل إلى سلوك يومي: مثلًا: حين تقرأ ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83] اجعلها برنامجًا ليومك؛ أن يكون كلامك كله طيبًا.
خطوات عملية للانتقال من النظرية إلى التطبيق
* التدبر الموجّه: اجعل لك وِردًا من القرآن لا للحفظ فقط، بل للتفكر، ولتدوين "رسالة اليوم من الآية".
* المحاسبة اليومية: قبل نومك، راجع نفسك: هل طبقت اليوم ما قرأته صباحًا؟
* الممارسة الصغيرة المستمرة: لا تحاول أن تُطبق كل القرآن دفعة واحدة، بل طبّق جزئية واحدة بعمق، حتى تصير عادة. مثلًا: آية غض البصر، اجعلها محور يومك.
* الصحبة الصالحة: ابحث عن رفقة همها العمل بالقرآن، فالمعين يثبت القلب.
التاريخ شاهد على إمكانية التطبيق
الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا ملائكة، بل بشرًا مثلنا، لكنهم جعلوا القرآن قائد حياتهم. انظر:
* عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سمع أول آيات من سورة طه، تغيّر قلبه، وانتقل من عدو للدين إلى حامل للقرآن وعدل للأمة.
* عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان لا يجاوز عشر آيات حتى يطبقها.
* فتوحات الإسلام وانتشاره في العالم لم تكن بكثرة الحفظ، وإنما بصدق التطبيق.
الاستفادة من الوسائل المعاصرة
في عصرنا، يمكننا الاستعانة بوسائل عملية:
* التطبيقات الرقمية لتذكيرك بمعاني آيات يومية مع تفعيلها.
* حلقات التدبر الجماعي حيث يتعاون الناس على تنزيل القرآن على الواقع.
* التدريب العملي عبر المبادرات الخيرية أو الاجتماعية، لترى أثر القرآن في خدمة الناس.
التوازن بين الطموح والواقع
لا تيأس إذا وجدت تقصيرًا، فالقرآن منهج عمر كامل، وليس مشروع شهر أو سنة. قال تعالى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾ [الإسراء: 106] فالعمل بالقرآن يحتاج "مكثًا"، أي تدرجًا وصبرًا.
ومن هنا أنصحك بالآتي:
1. استحضر أن كل آية رسالة شخصية لك من الله.
2. اجعل لكل يوم آية للتطبيق العملي.
3. دوّن تطبيقاتك وراجعها أسبوعيًّا.
4. اقتدِ برسول الله ﷺ وصحابته، فهُم الترجمة العملية للقرآن.
5 الزم الدعاء أن يفتح الله قلبك للعمل بالقرآن، كما كان النبي ﷺ يقول: (اللهم اجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري).
وأسأل الله أن يجعلك من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته، وأن يرزقك لذة التطبيق كما رزقك نور الحفظ، وأن يجري القرآن على لسانك نورًا، وفي قلبك هدى، وفي سلوكك عملًا، وأن يرفعك به في الدنيا والآخرة درجات.
روابط ذات صلة:
أحب الله والقرآن لكني أضعف أمام المقاطع المحرمة.. فكيف أنجو؟