22 فبراير 2025

|

23 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. موسى المزيدي
  • القسم : إدارية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 300
  • رقم الاستشارة : 725
18/01/2025

لماذا ينبغي لنا التروي قبل إصدار الحكم على الآخرين؟

الإجابة 18/01/2025

هناك مقولة باللغة الإنجليزية مفادها:

 “Don’t jump into conclusions“

لا تستعجل وتصدر الأحكام على الآخرين. لا تحكم على الناس من كلمة قيلت أو حركة وقعت. لا بد من التأكد قبل إصدار الحكم وعدم الافتراض. ويقال باللغة الإنجليزية:

"ِAlways confirm, don’t assume"

بمعنى، تأكد دائمًا ولا تفترض.

كنت أتجول في شوارع إحدى الدول العربية، فإذا بي أرى شيخًا كبيراً طاعنًا في السن جالسًا على قارعة الطريق يسند ظهره على حائط ويغط في نوم عميق وأمامه مجموعة من قطع المناديل الورقية يبيعها.

أردت أن أعرف سر هذا الرجل، حيث لاحظت أنه لا يقوم إلى الصلاة مع المسلمين ولا يحرك ساكنًا ولا يطلب من الناس أن يشتروا منه قطع المناديل، وقد تكرر هذا المنظر مرارًا.

لا أريد أن أصدر حكمًا سريعًا عليه قبل أن أتأكد من حقيقة أمره، فقد افترضت بادئ الأمر أنه رجل غير مسلم. فاقتربت منه وقلت: يا عمّ. ففتح عينيه بصعوبة وطالعني قائلا: نعم، ماذا تريد؟ قلت: ما اسم حضرتك؟ قال: أحمد، فعرفت أن افتراضي كان خاطئًا وأنه مسلم. فقلت: لماذا لا تصلي معنا في المسجد؟ فاستوى على ركبتيه قائلا: أنا بلغت من العمر 87 سنة ولا أقدر على الحركة، ولكن! لا تظن أنني لا أصلي معكم! أنا أسمع الإمام - من مكبر الصوت - يقول الله أكبر فأركع معه، ويقول سمع الله لمن حمده فأرفع رأسي. ولا تظن أنني لست حافظًا للقرآن، أنا أحفظه كله!

عندئذ عرفت أن الشيخ أحمد ليس رجلاً عاديًّا، ولكن قبل أن أصدر حكمًا عليه، عليَّ أن أتأكد من حفظه للقرآن الكريم كما يدّعي. فقلت له: حضرتك تحفظ القرآن كله؟ قال: نعم. قلت: أريد أن أختبرك، تسمح؟ قال وملؤه الثقة بالنفس: تفضل. قلت: أكمل قوله تعالى ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ..﴾ من سورة الأحزاب؟ فجلس باعتدال احترامًا لكلام الله وأكمل الآية بصوت رخيم، دون أن يخرق حرفًا واحدًا منها. فازددت إعجابًا به، ولكن الأمر يتطلب أن أسأله سؤالاً آخر كي أتأكد من حفظه للقرآن. فقلت: أريد أن أسألك سؤالاً آخر. فقال وهو واثق من نفسه: تفضل. قلت: أكمل قوله تعالى ﴿إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا..﴾ من سورة السجدة، فأكمل الآية الكريمة إلى قوله تعالى ﴿.. وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾. ثم استقبل القلبة وخر ساجدًا لله!

قلت له: حضرتك ماذا تبيع يا عم أحمد؟ فقال: مثلما ترى، مناديل ورقية. قلت: القطعة بكم؟ فقال: بكذا. قلت: كم قطعة موجودة لديك؟ قال: لا أعرف، قم بعد القطع. فوجدتها 40 قطعة موجودة لديه، فدفعت له ثمنها كلها، فقال لي: أكثر الله خيرك، لكن هكذا أنت تقطع رزقي!! فاستغربت من كلامه ولم أعلق وأخذت قطع المناديل الورقية وكلي يقين أنني ساعدته واختصرت عليه يومه في البيع وهيأت له الأمر لكي يقوم من قارعة الطريق ويذهب إلى بيته حيث أولاده وزوجته ينتظرونه. وقد بنيت ذلك كله على افتراضات تحتاج إلى من يؤكدها لي.

أخبرت لاحقًا صديقي د. محمد بما حدث وسألته: لماذا قال الشيخ أحمد إني قطعت رزقه؟ قال: يبدو أنك لم تفهم ما يقصده، هو يقصد أن كثيرًا من الناس يرأفون لحاله ويضعون مبلغا أمامه كصدقة، دون أن يشتروا شيئًا من قطع المناديل، وبالتالي على المدى البعيد هو الرابح، وربحه سيكون أكثر من ثمن المناديل، ويكون قد ربح دون أن يتسول أو يمد يده لأحد!

قررت أن أجعل ثمن قطع المناديل كله صدقة، فرجعت إلى الشيخ أحمد في اليوم التالي. فرأيته في نفس المكان على قارعة الطريق يبيع مجموعة أخرى من قطع المناديل الورقية. فألقيت عليه السلام وقلت: احتفظ بالمال لك وخذ قطع المناديل كاملة هذه لك. لا أريد أن أقطع عليك رزقك. قال: أستغفر الله، لم أقصد شيئًا، وشكرني. قلت له: لن تكتمل الصورة في ذهني إلا بسؤال ثالث أوجهه لك يا حافظ القرآن. قال: تفضل أنا جاهز. قلت له: أكمل قوله تعالى ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا...﴾. قال: ليست هكذا التلاوة يا باشا، هذا كلام ربنا. فأعاد قراءة الآيات كاملة بإتقان وبصوت رخيم، اللهم زد صوته حلاوة ونقاوة وطراوة ونداوة.

لماذا ينبغي لنا التروي قبل إصدار الحكم على الآخرين؟ لكي يجري الاستفادة منهم بالطريقة الصحيحة دون أن يقع ظلم عليهم.