الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
102 - رقم الاستشارة : 1332
15/03/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، دكتورة أميمة..
أنا أمٌّ لابنة تبلغ من العمر 14 عامًا، وهي فتاة خجولة جدًا لدرجة أصبحت تؤثر سلبًا على حياتها وحياتنا جميعًا. منذ طفولتها وهي تميل إلى الانعزال، ولكنني كنت أعتقد أن الأمر طبيعيٌّ وسيتغير مع مرور الوقت، لكن مع الأسف، زاد الوضع سوءًا.
كلما اضطررنا للخروج في مناسبة اجتماعية أو حدث عائلي، تُصاب ابنتي بتوتر شديد، وتحمرّ وجنتاها، وتتلعثم في الكلام، بل أحيانًا تعجز تمامًا عن الرد إذا وجّه إليها أحدٌ حديثًا، حتى لو كان أمرًا بسيطًا مثل "كيف حالك؟". وإذا حاولتُ دفعها للتفاعل، تبدأ في التعرّق وتشعر وكأنها في مأزق كبير، ثم تلجأ إلى الصمت الطويل.
المواقف المحرجة لم تعد تقتصر عليها فقط، بل أصبحتُ أنا ووالدها نتعرّض للإحراج بسببها. في إحدى المرات، كنا في زيارة رسمية لعائلة صديق زوجي، وحين قدّمت زوجته الطعام لابنتي وسألتها إن كانت تود شيئًا معينًا، لم تنطق بكلمة! اكتفت بهز رأسها بانفعال، ثم نظرت إليّ وكأنها تستنجد بي. شعرتُ حينها أنني أنا المخطئة في حقها، فأنا لم أعرف كيف أساعدها في مواجهة هذا الخجل.
حاولتُ مرارًا تشجيعها على المشاركة في الأنشطة المدرسية، لكنها ترفض تمامًا، وتُفضّل الجلوس في آخر الصف حتى لا يلاحظها أحد. وعندما تحاول معلمتها إشراكها في مناقشة الفصل، تنهار وترفض الحديث، وأحيانًا تعود إلى المنزل باكية لأنها شعرت بالإحراج أمام زميلاتها.
بدأتُ أخشى أن يؤثر خجلها هذا على مستقبلها؛ فالحياة تحتاج إلى الشجاعة والثقة بالنفس، وأنا لا أريد أن أراها تعاني في دراستها أو في حياتها العملية مستقبلاً بسبب هذا الخجل. أخشى أن تظلّ طوال حياتها عاجزة عن التعبير عن نفسها.
أنا في حيرة، فكيف يمكنني مساعدتها دون أن أضغط عليها؟ وكيف أجعلها تكتسب الجرأة والثقة بالنفس دون أن تشعر أنني ألومها أو أحرجها أكثر؟
أرجو من حضرتكِ إرشادي بحكمة، فأنا قلقة جدًا وأخشى أن يتحوّل خجلها إلى مشكلة نفسية دائمة.
جزاكِ الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أختي الكريمة،
أشكركِ على ثقتكِ في طلبي المشورة، وأحيي فيكِ حرصكِ على دعم ابنتكِ ومساعدتها، فهذا وحده يدل على مدى حبكِ ووعيكِ كأم. وأتفهم تمامًا مشاعركِ القلقة، فمن الطبيعي أن يشغلنا مستقبل أبنائنا، خاصة عندما نراهم يعانون.
أولًا: لا بد من أن تتفهمي طبيعة الخجل عند ابنتكِ..
فإن ما تعانيه فتاتك ليس مجرد خجل عادي، بل قد يكون (Social Anxiety Disorder) أو اضطراب القلق الاجتماعي، وهو حالة تجعل الشخص يشعر بالخوف الشديد من التقييم السلبي من الآخرين؛ ما يؤدي إلى تجنب التفاعل الاجتماعي أو التحدث أمام الناس.
لا يعني ذلك بالضرورة أن لديها اضطرابًا نفسيًّا خطيرًا، لكنّه مؤشر إلى أنها تحتاج إلى دعم خاص لتنمية ثقتها بنفسها.
الخجل الشديد قد يكون ناتجًا عن عوامل وراثية، أو بسبب مواقف سابقة محبطة، أو بسبب نمط التربية الذي ربما يكون قد عزّز لديها الميل إلى الانطواء، حتى دون قصد.
ثانيًا: سأشرح لك باختصار كيف نساعدها على اكتساب الثقة بالنفس..
1- عدم إجبارها على المواجهة دفعة واحدة.. حيث إن الضغط المباشر على الفتاة وإجبارها على الحديث أمام الآخرين قد يزيد من قلقها؛ لذا يجب أن يتم تشجيعها بلطف وبخطوات تدريجية، والرسول ﷺ كان خير معلم، وكان يعامل الصحابة كلٌّ وفق طبيعته، حتى إن الشاب الذي جاء يستأذنه في فعل الحرام لم يوبّخه، بل حاوره بحكمة ورحمة.
2- تعزيز مفهوم "القوة الهادئة"..
أحيانًا، يعتقد الخجولون أن القوة تكمن فقط في الجهر والصوت المرتفع، بينما في الحقيقة هناك قوة في الهدوء والثبات. وكما قال الشاعر:
وإذا كنتَ ذا قولٍ فكن ذا حكمةٍ ** فإنّ الجوابَ المرَّ يَشري السخائمَا
علّمي ابنتكِ أن الثقة لا تعني بالضرورة أن تكون صاخبة، بل يمكنها أن تكون هادئة ولكن واثقة.
3- استخدمي معها "التعزيز الإيجابي" (Positive Reinforcement)..
أي عندما تحاول ابنتكِ التفاعل -حتى ولو بشكل بسيط- احرصي على مدحها والإشادة بها.
وفقًا لنظريات التعلم السلوكي، فإن التعزيز الإيجابي يساعد في ترسيخ السلوكيات الجيدة.. يمكن مثلاً أن تقولي لها: "أعجبتني طريقتكِ في الرد على فلانة اليوم، كان صوتكِ هادئًا لكنه قوي، أحسنتِ!" وهكذا.
4- من الجيد والصحي لها أن تعلميها "مهارات التواصل التدريجية"..
- ويمكن البدء بتدريبها على محادثات قصيرة مع الأشخاص الذين تشعر معهم بالراحة، ثم توسيع الدائرة تدريجيًّا.
- علّميها بعض العبارات الجاهزة للرد السريع، مثل: "شكرًا لكِ، أنا بخير" عندما يسألها أحد عن حالها.
- كذلك استخدمي "تمثيل الأدوار" (Role-Playing) في المنزل، بحيث تقومان بتمثيل مواقف اجتماعية مختلفة للتعلم كيف تتعامل مع الأطراف الأخرى في كل موقف وخاصة المواقف المتكررة عليها.
٥- لكي تندمج اجتماعيًّا، يجب إدماجها في أنشطة غير كلامية أولًا..
فنظرًا لأن المشاركة في الحديث مباشرة قد تكون صعبة عليها، جربي أن تشجعيها على الانضمام إلى أنشطة لا تتطلب كلامًا كثيرًا، مثل الرسم، أو الأعمال اليدوية؛ ما يساعدها في بناء علاقات دون الشعور بضغط التواصل اللفظي.
٦- كذلك من الضروري أن تعززي لديها الثقة عبر إنجازاتها الصغيرة..
فالثقة حبيبتي تُبنى عبر الإنجازات؛ ولذلك ينبغي أن تساعديها على وضع أهداف صغيرة، مثل: إلقاء التحية بصوت مسموع على زميلاتها في المدرسة، ثم توسيع الهدف لاحقًا إلى إجراء محادثة قصيرة.
وأتمنى ألا تقلقي بشأن ابنتك، فنحن نجد أمثلة رائعة عن الشخصيات الهادئة لكن القوية، مثل السيدة مريم عليها السلام التي كانت صامتة، ولكنها واجهت المجتمع بثقة عندما احتاجت لذلك.
وعليك أن تذكّريها بأن الله قد خلقها بصفات مميزة، وأنها ليست مضطرة لأن تكون نسخة من الآخرين، ولكن عليها أن تكون أفضل نسخة من نفسها.
* وهمسة أخيرة لقلبك أختي الحبيبة:
ابنتكِ تحتاج إلى الوقت، والصبر، والدعم العاطفي المستمر.
لا تتعجلي النتائج، ولا تجعلي القلق يسيطر عليكِ، فكل خطوة صغيرة في اتجاه التحسن هي إنجاز يستحق الاحتفاء.
أسأل الله أن يمنحكِ الحكمة في تربيتها، وأن يرزقها الطمأنينة والثقة بالنفس.. وجزانا وإياك خير الجزاء.