Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 25
  • رقم الاستشارة : 1233
10/03/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كيف نفهم قوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) على ضوء الواقع الذي نراه؟ فقد نجد أناسًا كانوا في طاعة، ثم ابتُلوا بمحن رغم عدم وقوعهم في معاصٍ، ونرى آخرين أقلعوا عن الذنوب لكن ابتلاءاتهم لم تزُل عنهم، بينما نجد من يستمر في المعاصي ورغم ذلك تظل حياته في رخاء دون عقوبة ظاهرة. فكيف نوفق بين هذه المشاهد وبين مفهوم الآية؟ وهل هناك عوامل أخرى تؤثر في التغيير غير تغيير الإنسان نفسه؟ وجزاكم الله خيرًا.

الإجابة 10/03/2025

حيَّاك الله أيها السائل الكريم، وبارك فيك، وجعل ما تسأل عنه طريقًا لنور بصيرتك وزيادة إيمانك. أسأل الله أن يرزقك الفهم العميق لكتابه، وأن يفتح لك أبواب الخير والبركة في الدنيا والآخرة، وبعد...

 

فإن آية ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11] من الآيات العظيمة التي تحدد سُنة من سنن الله الثابتة في خلقه، وهي أن التغيير يبدأ من داخل الإنسان قبل أن يُحدث الله تغييرًا في واقعه. ولكن حين نتأمل الواقع، قد نرى مشاهد تُشَكِّل لنا تساؤلات: لماذا يُبْتلى الصالح؟ ولماذا لا تزول محن التائب؟ ولماذا ينعم العاصي بالرخاء؟

 

ولفهم هذه الظواهر، لا بد من النظر إلى الأمور من زاوية أوسع تتجاوز الظاهر إلى حكم الله وسننه الكونية والشرعية.

 

أولًا- فهم الآية في ضوء سنن الله

 

هذه الآية تعني أن أي تغيير في أحوال الناس، سواء كان نعمةً أو محنةً، مرتبط بتغييرهم لما في نفوسهم من الإيمان أو الكفر، والطاعة أو المعصية، والإصلاح أو الفساد. لكن هذا لا يعني أن كل تغيير يُرى في الواقع يجب أن يكون نتيجة مباشرة لتغيير ظاهر قام به الإنسان، فهناك سنن إلهية أخرى تحكم حياة البشر، منها:

 

1. سنة الابتلاء: فالله يبتلي المؤمنين ليرفع درجاتهم ويطهِّرهم من الذنوب، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155]. كما قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ» [رواه الترمذي].

 

2. سنة الاستدراج: فقد يُمْهِل الله العاصي ويُوسع عليه في الدنيا، ليس تكريمًا له، بل استدراجًا حتى يزداد في غيّه، ثم يأخذه أخذًا شديدًا، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 182].

 

3. سنة التمحيص والتربية: فالتائب قد لا تزول ابتلاءاته فورًا؛ لأن الله يُريد له أن يثبت ويُطهَّر ويقوى إيمانه، كما قال سبحانه: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد: 31].

 

ثانيًا- كيف نفهم المشاهد المتباينة؟

 

1- المؤمن الذي يبتلى رغم طاعته:

 

* قد يكون هذا الابتلاء رفعًا لدرجاته، ليصل إلى مقام الصالحين.

 

* قد يكون تكفيرًا لذنوبه، وإن لم يكن ظاهرًا لنا.

 

* قد يكون لحكمة لا يعلمها إلا الله، مثل اختبار صبره أو زيادة أجره.

 

2- التائب الذي لم تزُل عنه المحن:

 

* التوبة تُزيل الذنوب، لكنها لا تُلغي تمامًا آثارها الدنيوية، كما أن بعض الابتلاءات قد تكون جزءًا من تربية الله لعباده.

 

* ربما كان الابتلاء دافعًا له إلى الثبات وعدم الرجوع للذنب.

 

* قد يكون لرفع منزلته، ليكون من عباد الله الصالحين الذين صبروا فنالوا الأجر العظيم.

 

3- العاصي الذي يعيش في رخاء:

 

* هذا ليس بالضرورة نعمة، فقد يكون استدراجًا كما ذكرنا.

 

* قد يكون إمهالًا من الله لعله يرجع.

 

* قد يكون ما يراه من رخاء هو عين الابتلاء؛ لأن أعظم العقوبات قد تأتي في صورة النعم التي تُنسي العبد الله.

 

ثالثًا- عوامل أخرى تؤثر في التغيير

 

بالإضافة إلى تغيير الإنسان لنفسه، هناك عوامل أخرى تؤثر في التغيير، مثل:

 

1- الدعاء والتضرع إلى الله: فقد يغيّر الله أحوال العبد بسبب دعائه وإلحاحه، كما قال ﷺ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ» [رواه الترمذي].

 

2- سنة التدافع: فالأحوال لا تتغير فقط بتغيير الفرد لنفسه، بل أيضًا بوجود عوامل مجتمعية وظروف خارجية قد تؤخر التغيير أو تعجّله.

 

3- الابتلاءات الجماعية: فهناك ابتلاءات تنزل على أمة أو مجتمع بأسره، ولا تتعلق بفرد بعينه، كما قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25].

 

وختامًا -أيها السائل الكريم- فإن هذه الحياة دار ابتلاء وامتحان، وليست دار جزاء، والميزان الحقيقي هو ميزان الآخرة، لا ميزان الدنيا. فلنحرص على تغيير أنفسنا بالإيمان والطاعة، مع الصبر على أقدار الله، والثقة بحكمته، والإلحاح في الدعاء، والاجتهاد في الأعمال الصالحة. وما دام القلب معلقًا بالله، فمهما اشتدت المحن، فالبشرى للصابرين، والفوز في النهاية لأهل الإيمان.

 

أسأل الله أن يثبتك على الحق، وينير بصيرتك، ويرزقك الرضا بحكمه، وأن يجعلنا جميعًا ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.